الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي الإِكْرَاهِ:
8 -
قَالَ البُخَارِيُّ: (بَابُ إِذَا أُكْرِهَ حَتَّى وَهَبَ عَبْدًا أَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: «فَإِنْ نَذَرَ المُشْتَرِي فِيهِ نَذْرًا، فَهُوَ جَائِزٌ بِزَعْمِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ دَبَّرَهُ)(1).
9 -
وَقَالَ: (بَابُ يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ، إِذَا خَافَ عَلَيْهِ القَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ، فَإِنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ المَظَالِمَ، وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ المَظْلُومِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا قِصَاصَ. وَإِنْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ الخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ المَيْتَةَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً، وَتَحُلُّ عُقْدَةً، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ فِي الإِسْلَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَسِعَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ». وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ المَيْتَةَ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ أَوْ أَبَاكَ، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، لَمْ يَسَعْهُ، [لِأَنَّ هَذَا] لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ. ثُمَّ نَاقَضَ فَقَالَ: إِنْ قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوِ ابْنَكَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا العَبْدَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ، يَلْزَمُهُ فِي القِيَاسِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ: البَيْعُ وَالهِبَةُ، وَكُلُّ عُقْدَةٍ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ. فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَغَيْرِهِ، بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ أُخْتِي، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ». وَقَالَ النَّخَعِيُّ: «إِذَا كَانَ المُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ المُسْتَحْلِفِ»)(2).
الخلاف هنا سببه تفرقة الأحناف بين البيع الباطل الذي لا يترتب عليه أي أثر، وهو ما كان الخلل في ركن من أركانه، والبيع الفاسد وهو
(1)" البخاري ": 4/ 201، 292.
(2)
" البخاري ": 4/ 201، 202.
ما كان الخلل في وصفه دون أصله.
وقد اعتبر الأحناف أن تصرف المُكْرَهِ هنا ينعقد فاسدًا، حتى أن الملك يثبت به القبض، لأن ركن البيع صدر من أهله مضافًا إلى محله، والفساد لفقد شرطه وهو التراضي، فصار كسائر الشروط المفسدة، فيثبت الملك عند القبض، حتى لو قبضه وأعتقه، أو تصرف فيه تصرفًا لا يمكن نقضه، جاز، ويلزمه القيمة (1).
ولذلك يقول السِّنْدِيُّ في تعليقه على المسألة الأولى: «حَاصِلُ كَلَامِ الحَنَفِيَّةِ أَنَّ بَيْعَ المُكْرَهِ مُنْعَقِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ لِتَعَلُّقِ حَقِّ العَبْدِ بِهِ، فَيَجِبُ تَوَقُّفُهُ إِلَى إِرْضَائِهِ إِلَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ المُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا يَقْبَلُ الفَسْخَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ تَعَارَضَ فِيهِ حَقَّانِ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْعَبْدِ حَقُّ المُشْتَرِي وَحَقُّ البَائِعِ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ مَعَ لُزُومِ البَيْعِ بِإِلْزَامِهِ القِيمَةَ عَلَى المُشْتَرِي بِخِلَافِ حَقِّ المُشْتَرِي، فَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ مَعَ فَسْخِ البَيْعِ مَعَ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَقْبَلُ الفَسْخَ فَصَارَ اعْتِبَارُهُ أَرْجَحَ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ تَصَرُّفًا يَقْبَلُ الفَسْخَ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ حَقَّ البَائِعِ عِنْدَهُمْ وَهَذَا الفَرْقُ مِنْهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ المُكْرَهِ مُنْعَقِدٌ مَعَ الفَسَادِ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِهِ، فَالنِّزَاعُ مَعَهُمْ فِي هَذَا الأَصْلِ
…
» (2).
أما المسألة الثانية، فكلام أهل الرأي فيها مبني على أن الإكراه في كل شيء بحسبه، فتخليص القاتل عن المعصية، والمقتول عن القتل، لا يكون إكراهًا لغيرهما على المعصية. فإذا قال قائل: اعص اللهَ وإلا فأعصيه أنا، فلا ينبغي له أن يعصيه، ولا يعد ذلك إكراهًا على المعصية، ولهذا لم يعدوا مكرهًا من قيل له: لتشربن الخمر أو لأقتلن فلانًا من الناس.
أما الإكراه على البيع والهبة بقتل ذي رحم محرم، ففي استطاعته
(1) انظر " الهداية ": 3/ 38، 39، 201.
(2)
انظر " حاشية السندي على البخاري ": 4/ 201، 202.
الإقدام على هذه العقود لتخليص قريبه، لأن الإقدام على العقود ليس معصية، وهي تنعقد فاسدة، فيدفع بها القتل عن القريب، والتهديد بقتل ذي الرحم المحرم هو الذي يتحقق فيه معنى الإكراه، بخلاف قتل الأجنبي (1).
ونقد البخاري أهل الرأي في المسألة الثانية، يعتبر نموذجًا واضحًا للاتجاه الخلقي الديني عند المحدثين، حيث أوجب على كل مسلم أن يسعى في إنقاذ أي مسلم، وإن لم يكن قريبه قرابة نسبية، إذ ليست هذه القرابة هي كل ما يربط بين المسلمين، بل هناك علاقة الإسلام وأخوة الإيمان. ولهذا روى في المسألة الثانية حديث:«المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ» . وحديث: «" انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا "، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: " تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ "» .
وصدورًا عن هذا الاتجاه نفسه، جاء نقد البخاري أهل الرأي فيما تبقى من المسائل، والتي جمعها كتاب الحيل من " صحيحه ". ولعلنا نذكر أن إبطال الحيل كان إحدى نتيجتين للاتجاه الخلقي الديني، وكنا قد أجلنا الحديث عنه، ووعدنا أن نتعرض له في هذا الفصل. وها قد حان موعد لقائنا معه.
(1) انظر " حاشية السندي على البخاري ": 4/ 201، 202.