الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القِرَاءَةُ خَلْفَ الإِمَامِ:
ذكرنا في فصل (الاتجاه إلى الآثار) أن أبا حنيفة يرى أن القراءة في الصلاة، ليس خصوص فاتحة الكتاب، وإنما هو قراءة ما تيسر من القرآن، أما قراءة الفاتحة بالذات فهذا واجب ليس بفرض، لأنه ثبت بأخبار الآحاد، فمن لم يقرأها صحت صلاته مع الإساءة، لحديث عائشة:«كُلُّ صَلَاةٍ [لَا] يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ القُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» أي ناقصة.
أَمَّا القِرَاءَةُ خَلْفَ الإِمَامِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى تَرْكِهَا خَلْفَهُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَرْكِهَا فِي حَالَةِ جَهْرِ الإِمَامِ بِالقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَتِهَا فِي حَالَةِ الإِسْرَارِ، وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ إِلَى وُجُوبِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، مُنْفَرِدًا أَوْ مَأْمُومًا، فِي حَالَتَيْ الجَهْرِ وَالإِسْرَارِ.
وقد عرض الطحاوي هذا الموضوع، فذكر ثلاثة أحاديث يحتج بها من يرى وجوب القراءة خلف الإمام:
- أَوَّلُهَا، حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ.
- وَثَانِيهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، الذِي رَوَاهُ أَبُو السَّائِبِ (*) عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ صَلَّى صَلَاةً [لَمْ] يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ القُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» غَيْرُ تَمَامٍ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الْإِمَامِ، قَالَ:«اقْرَأْهَا يَا فَارِسِيُّ فِي نَفْسِكَ» .
- وَثَالِثُهَا حَدِيثٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ:«صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الفَجْرِ، فَتَعَايَتْ عَلَيْهِ القِرَاءَةُ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: " [أَتَقْرَأُونَ] خَلْفِي؟ " قُلْنَا: " نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ "، قَالَ: " فَلَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا "» .
وقد ناقش الطحاوي هذه الأحاديث: أما الحديثان الأولان فإنهما ساكتان عن محل النزاع، وهو الصلاة خلف الإمام، فقد يجوز أن يكون
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع (أبو الصائب) والصواب ما أثبته. وَهُوَ أَبُو السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ، انظر " تهذيب الكمال في أسماء الرجال " للمزي، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، 33/ 338، ترجمة رقم 7380، الطبعة الأولى: 1400 هـ - 1980 م، نشر مؤسسة الرسالة. بيروت - لبنان.
عني بهما الصلاة التي لا إمام فيها للمصلي، وَقَدْ فَهِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ هَذَا الفَهْمَ، فِيمَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا، قَالَ:«" يَا رَسُولَ اللهِ فِي [كُلِّ] الصَّلَاةِ قُرْآنٌ؟ " قَالَ: " نَعَمْ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: " وَجَبَتْ ". قَالَ: وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: " أَرَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَمَّ القَوْمَ ، فَقَدْ كَفَاهُمْ "» .
فلم يبق إلا الحديث الثالث الذي رواه عبادة، وقد روى الطحاوي مجموعة من الآثار تخالفه، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ صَلَّى رَكْعَةً ، فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، فَلَمْ يُصَلِّ إِلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ» (1)، ومنها حديث:«مَالِي أُنَازَعُ القُرْآنَ؟» عن أبي هريرة، وفيه:«فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ القِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالقِرَاءَةِ ، مِنَ الصَّلَوَاتِ ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ» ، وبما رواه عن أبي هريرة مرفوعًا:«إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» .
ثم ذكر الطحاوي أنه إذا احتج محتج بأن بعض الصحابة قد كان يقرأ خلف الإمام، احتج عليه بأن بعضهم الآخر كان لا يقرأ، ثم روى عدم القراءة خلف الإمام عَنْ عَلِيٍّ، وابن مسعود، وجابر، وزيد بن ثابت، وابن عمر.
ولم ينس الطحاوي أن يحكم النظر بين الآثار المختلفة، فذكر أن القراءة خلف الإمام لو كانت فرضًا، لما صحت الركعة التي أدرك مع الإمام فيها وهو راكع، فلما أجمعوا على أنه يعتد بتلك الركعة، كان ذلك دليلاً على عدم وجوب القراءة على المأموم، ولا يقال إن القراءة سقطت
(1) رواه " الترمذي ": وَقَالَ: «حَسَنٌ صَحِيحٌ» : 2/ 106، 111.
لضرورة اللحاق بالإمام، لأن الفروض لا تسقط بهذه الضرورة. فلو ترك تكبيرة الإحرام قبل ركوعه، خوفًا من فوت الإمام لما صحت صلاته (1).
هذه هي وجهة النظر الحنفي، كما عرضها الطحاوي، فكيف عرض البخاري وجهة نظره؟
لم يذكر البخاري في " صحيحه " إلا ترجمة مختصرة، ولكنها تفصح عن رأيه بوضوح، فقال:(بَابُ وُجُوبِ القِرَاءَةِ لِلْإِمَامِ وَالمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا وَمَا يُخَافَتُ). «ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الكُوفَةِ اشْتَكَوْا سَعْدًا إِلَى عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُ:" يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي "، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: " أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاةَ العِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ
…
"»، كَمَا رَوَى حَدِيثَ عُبَادَةَ:«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» . ثم روى حديث أبي هريرة في المسيء صلاته، وفيه:«إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» (2).
أما الجزء الأول الذي ألفه البخاري في هذه المسألة، فقد ناقش فيه حجج أهل الرأي مفندًا لها، مبينًا تناقضهم.
وقد بدأ عرضه للموضوع بذكر الروايات في قوله صلى الله عليه وسلم:
(1) انظر " معاني الآثار ": 1/ 127، 129. ونقل الإجماع على الاعتداد بالركعة لمن أدرك الركوع مع الإمام - غير مسلم، كما سيأتي في مناقشة البخاري.
(2)
انظر " البخاري بحاشية السندي ": 1/ 90، 91.
«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» ، «كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ (1) أَوْ مُخْدَجَةٌ» ، وحديث أبي هريرة:«مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ القُرْآنِ، فَهِي خِدَاجٌ (ثَلَاثًا) غَيْرَ تَمَامٍ» . قُلْتُ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنِّي أَكُونُ وَرَاءَالْإِمَامِ» . قَالَ: «يَا ابْنَ الفَارِسِيِّ، اقْرَأْهَا فِي نَفْسِكَ
…
».
ثم ذكر أن قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، قد فسره ابن عباس بقوله:«هَذِهِ فِي المَكْتُوبَةِ وَالخُطْبَةِ» . ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «سَأَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم " أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ؟ " قَالَ: " نَعَمْ "، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: " وَجَبَتْ "» . ولكنه لم يرو تأويل أبي الدرداء لذلك، مما سبق أن رواه الطحاوي.
ثم أخذ البخاري بعد ذلك في عرض وجهة نظر أهل الرأي، مشيرًا إليهم بالعبارة نفسها التي استعملها في " صحيحه "، فقال:«وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُجْزِيهِ آيَةً آيَةً (2)، فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، بِالفَارِسِيَّةِ، وَلَا يَقْرَأُ فِي الأُخْرَيَيْنِ» ، وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الأَرْبَعِ» .
«وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأَرْبَعِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ". فَإِنِ احْتَجَّ وَقَالَ: قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " لَا صَلَاةَ " وَلَمْ يَقُلْ: " لَا يُجْزِي " قِيلَ لَهُ: إِنَّ الخَبَرَ إِذَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحُكْمُهُ عَلَى اسْمِهِ وَعَلَى الجُمْلَةِ، حَتَّى يَجِيءَ بَيَانُهُ
(1) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ (*): «يُقَالُ: خَدَجَتْ النَّاقَةُ إِذَا أَسْقَطَتْ، وَالسَّقْطُ مَيِّتٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ» . (انظر " خير الكلام في القراءة خلف الإمام ": ص 19).
(2)
قال صاحب " الهداية ": «وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنَ القِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ [آيَةٌ] عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا (**): ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ» . " الهداية ": 1/ 36 مطبعة محمد علي صبيح بالأزهر، وَقَالَ أَيْضًا في 1/ 30:«فَإِنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ قَرَأَ فِيهَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ ذَبَحَ وَسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ» .
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: «خَدَجَتْ النَّاقَةُ إِذَا أَلْقَتْ وَلَدَهَا قَبْلَ أَوَانِ النِّتَاجِ وَإِنْ كَانَ تَامَّ الْخَلْقِ وَأَخْدَجَتْ إِذَا أَلْقَتْهُ نَاقِصَ الْخَلْقِ وَإِنْ كَانَ لِتَمَامِ الحَمْلِ» . انظر " غريب الحديث "، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت 224 هـ)، تحقيق الدكتور محمد عبد المعيد خان، 1/ 66. 3/ 446، الطبعة الأولى: 1384 هـ - 1964 م، نشر مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن - الهند.
(**) بياض بالكتاب المطبوع، (وَقَالَا): يراد بهما الإمام أبو يوسف القاضي، والإمام محمد بن الحسن الشيباني، واستدركته من " الهداية شرح بداية المبتدي " للإمام برهان الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني (ت 593 هـ)، اعتنى به بإخراجه وتنسيقه وتخريج أحاديثه من " نصب الراية " و" الدراية " نعيم أشرف نور أحمد، 1/ 311، كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة، من منشورات إدارة القرآن والعلوم الإسلامية. كراتشي - باكستان.
وانظر أيضًا: " العناية شرح الهداية " للبابرتي (ت 786 هـ)، 1/ 284، الطبعة بدون تاريخ، نشر دار الفكر.
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " لَا يُجْزِيهِ إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ ". فَإِنِ احْتَجَّ، فَقَالَ: إِذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ جَازَتْ فَكَمَا أَجْزَأَتْهُ فِي الرَّكْعَةِ كَذَلِكَ تُجْزِيهِ فِي الرَّكَعَاتِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا أَجَازَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالذِينَ لَمْ يَرَوُا القِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَأَمَّا مَنْ رَأَى القِرَاءَةَ، فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:" لَا يُجْزِيهِ حَتَّى يُدْرِكَ الْإِمَامَ قَائِمًا "، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهما:" لَا يَرْكَعُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَقْرَأَ بِأُمِّ القُرْآنِ "، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لَكَانَ هَذَا المُدْرِكُ لِلرُّكُوعِ مُسْتَثْنًى مِنَ الجُمْلَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِجْمَاعَ فِيهِ».
ثم يبين البخاري تناقض أهل الرأي على استدلالهم لعدم القراءة خلف الإمام، بالآية الكريمة:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. فيسألهم: أيثني المأموم على اللهِ والإمام يقرأ؟ فيجيبون: نعم، فيقول لخصمه: إن الثناء تطوع تتم الصلاة بغيره، والقراءة في الأصل واجبة، لقد «أَسْقَطْتَ الوَاجِبَ بِحَالِ الْإِمَامِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْتَمِعُوا} [الأعراف: 204]، وَأَمَرْتَهُ أَنْ لَا يَسْتَمِعَ عِنْدَ الثَّنَاءِ وَلَمْ تُسْقِطْ عَنْهُ الثَّنَاءَ، وَجَعَلْتَ الفَرِيضَةَ أَهْوَنَ حَالًا مِنَ التَّطَوُّعِ، وَزَعَمْتَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَالْإِمَامُ [فِي الفَجْرِ فإنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ] لَا يَسْتَمِعُ وَلَا يُنْصِتُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ. وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم[قَالَ]: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ "» (ص 4).
وَقَدْ ضَعَّفَ البُخَارِيُّ الحَدِيثَ الذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ، وَهُوَ «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» ، ثُمَّ نَاقَشَهُمْ مُنَاقَشَةً عَقْلِيَّةً، ينعى عليهم فيها أنهم أهل قياس لا يحسنونه، لأن القياس الصحيح كان يؤدي بهم إلى خلاف
ما قالوه، فقد «اتَّفَقَ أَهْلُ العِلْمِ وَأَنْتَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِمَامُ فَرْضًا عَنِ القَوْمِ. ثُمَّ قُلْتُمُ: القِرَاءَةُ فَرِيضَةٌ، وَيُحْتَمَلُ الْإِمَامُ هَذَا الفَرْضَ عَنِ القَوْمِ فِيمَا جَهَرَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَجْهَرْ، وَلَا يَحْتَمِلُ [الْإِمَامُ] شَيْئًا مِنَ السُّنَنِ، نَحْوَ الثَّنَاءِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، فَجَعَلْتُمُ الفَرْضَ أَهْوَنَ مِنَ التَّطَوُّعِ، وَالقِيَاسُ عِنْدَكَ أَنْ لَا يُقَاسَ الفَرْضُ بِالتَّطَوُّعِ، وَأَلَّا يُجْعَلَ الفَرْضُ أَهْوَنَ مِنَ التَّطَوُّعِ، وَأَنْ يُقَاسَ الفَرْضُ أَوِ الفَرَعُ، بِالفَرْضِ إِذَا كَانَ مِنْ نَحْوِهِ. فَلَوْ قِسْتَ القِرَاءَةَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا فَرْضًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَرْضٍ مِنْهَا كَانَ أَوْلَى عِنْدَ مَنْ يَرَى القِيَاسَ أَنْ يَقِيسُوا الفَرْضَ أَوْ الفَرْعَ بِالفَرْضِ» (ص 4)(1).
«بَقِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] لَا يُنَافِي القِرَاءَةَ خَلْفَ الإِمَامِ، إِذْ يَسْتَطِيعُ المَأْمُومُ أَنْ يَقْرَأَ الفَاتِحَةَ فِي سَكَتَاتِ الإِمَامِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ قَبْلَ القِرَاءَةِ، وَبَعْدَ الفَرَاغِ مِنْهَا» (ص 4). ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ فِي الصَّلَاةِ إِذَا خَطَبَ الإِمَامُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَمَعَ أَنَّهُ عليه السلام نَهَى عَنْ الكَلَامِ أَثْنَاءَ الخُطْبَةِ إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخْطِئْ أَنْ يَقْرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ» (ص 15).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «إِذَا لَمْ يَقْرَأْ خَلْفَ الْإِمَامِ أَعَادَ الصَّلَاةَ» (ص 15).
ثم يستمر البخاري في بيان تناقض أهل الرأي ومخالفتهم، فينكر على من يقول منهم: يجزيه أن يقرأ بالفارسية، ويجزيه أن يقرأ بآية، «يَنْقَضُّ آخِرُهُمْ عَلَى أَوَّلِهِمْ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ» .
ثم يسألهم بما لا يحيرون معه جوابًا، فيقول: «مَنْ أَبَاحَ لَكَ الثَّنَاءَ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ [بِخَبَرٍ أَوْ بِقِيَاسٍ]، وَحَظَرَ عَلَى غَيْرِكَ الفَرْضَ - وَهُوَ القِرَاءَةُ - وَلَا خَبَرَ
(1)" خير الكلام في القراءة خلف الإمام ": ص 4.
عِنْدَكَ وَلَا اتِّفَاقَ لِأَنَّ عِدَّةً مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَمْ يَرَوُا الثَّنَاءَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَيُكَبِّرُونَ ثُمَّ يَقْرَؤُونَ فَتَحَيَّرَ عِنْدَهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ».
ثم يلقي الضوء على نوع آخر من تناقضهم، معنفًا لهم، فيقول لخصمه:«زَعَمْتَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ أَوِ العَصْرِ أَوِ العِشَاءِ يُجْزِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ مِنَ التَّطَوُّعِ لَمْ يُجِزِهِ. قُلْتَ: وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنَ المَغْرِبِ أَجْزَأَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنَ الوِتْرِ لَمْ يُجِزِهِ، وَكَأَنَّهُ مُولِعٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (1)(ص5).
ثم أخذ البخاري يسرد الأدلة على وجوب القراءة في كل ركعة، وأن من يدرك الركوع مع الإمام دون أن يتمكن من القيام والقراءة فإنه لا يعتد بركعته، وعليه أن يأتي بركعة غيرها: «وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ:
(1) لاحظ التشابه في أسلوب المناقشة بين البخاري وشيخه إسحاق بن راهويه، والعبارة الأخيرة من كلام البخاري، قد استعملها إسحاق، فيما نقلناه عنه في بداية هذا الباب وفي " الهداية ":(1/ 46) أن القراءة واجبة في الركعتين الأوليين من الفرض، ومخير في الأخريين، أما النفل والوتر فالقراءة واجبة في جميع الركعات فيهما، لأن كل شفع في النفل صلاة على حدة، والقيام إلى الثالثة كتحريمه مبتدأة. وأما الوتر فللاحتياط.
إِنَّ كُلَّ مَأْمُومٍ يَقْضِي فَرْضَ نَفْسِهِ، وَالقِيَامُ وَالقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ عِنْدَهُمْ فَرْضٌ فَلَا يَسْقُطُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَنِ المَأْمُومِ وَكَذَلِكَ القِرَاءَةُ فَرْضٌ فَلَا يَزُولُ فَرْضٌ عَنْ أَحَدٍ إِلَّا بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَقَالَ [أَبُو قَتَادَةُ] وَأَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَمَا أَدْرَكْتُمْ، فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا ". فَمَنْ فَاتَهُ فَرْضُ القِرَاءَةِ وَالقِيَامِ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» (ص 15).
«إِنْ اعْتَلَّ مُعْتَلٌّ فَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ "، وَلَمْ يَقُلْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَ حِينَ قَالَ: " اقْرَأْ ثُمَّ ارْكَعْ [ثُمَّ اسْجُدْ] ثُمَّ ارْفَعْ فَإِنَّكَ إِنْ أَتْمَمْتَ صَلَاتَكَ عَلَى هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ "
…
فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فِيَ كُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةً وَرُكُوعًا وَسُجُودًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ عَلَى مَا بَيَّنَ لَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى».
وهذا حديث مفسر للصلاة كلها، لا لركعة دون ركعة.
«وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا "» (ص 17، 18).
وَقَدْ ضَعَّفَ البُخَارِيُّ الزِّيَادَةَ التِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» ، والزيادة التي ضعفها البخاري هي:«فَقَدْ أَدْرَكَهَا قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْإِمَامُ صُلْبَهُ» ، هذا إلى أن الحديث إذا قال:«مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً» فإنما يريد الركعة الكاملة بكل ما تحويه من فرائض من قيام وركوع وسجود، ولا يقتصر معناه على إدراك الركوع (ص 19، 22).
ثم ذكر البخاري أنه لا يجهر بالقراءة خلف الإمام. وأن المأموم يقرأ في سكتات الإمام، وهي سكتتان: بعد تكبيرة الإحرام، وبعد الفراغ من القراءة قبل الركوع.
ثم يروي في آخر الكتاب عن أبي هريرة قال: «إِذَا أَدْرَكْتَ
القَوْمَ رُكُوعًا لَمْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ» (1).
هاتان هما المسألتان اللتان أفردهما البخاري بالتأليف، ومن هذا التلخيص الذي قدمنا يتبين فيه قدر غير قليل من العلاقة غير الودية بين أهل الحديث وأهل الرأي، مما فصلناه في غير هذا المكان، كما يكشف هذا التلخيص عن براعة البخاري في المناقشة، ويؤكد تمكنه من الأخبار ومعرفته بعللها، وطريقته في إلزام الخصوم وبيان تناقضهم.
أما بقية المسائل التي ناقشها البخاري في " صحيحه "، فلم تحظ بما حظيت به هاتان المسألتان، لأن كتابه في الصحيح يفرض عليه منهجًا خاصًا، لا يتيح له التوسع في مناقشة الآراء والموازنة بينهما، كما قدمنا، وإن لم تخل المسائل التي ناقشها في " صحيحه "، من جوهر هذا الأسلوب وطابعه، كما سيتضح من عرضها فيما يأتي:
• • •
(1) انظر في مسألة القراءة خلف الإمام: " المغني ": 1/ 563، 567؛ و" المحلى ": 3/ 236 وما بعدها و 243 ومذهب ابن حزم فيها كمذهب أبي هريرة والبخاري؛ و" الهداية ": 1/ 37؛ و" سنن البيهقي ": 2/ 89، 90.
وذكر مالك في " الموطأ ": (1/ 11 حديث رقم 18) أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ، وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ» .