الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي الهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ:
جمع البخاري بين الهبة والشفعة في باب واحد، للتحيل على إسقاط الشعفة باستخدام الهبة في بعض المسائل. وقد ذكر قول:«بَعْضُ النَّاسِ» في هذا الباب خمس مرات: الأولى استخدمت فيها الهبة حيلة لإسقاط الزكاة، والأربع الباقية خاصة بحيل الشفعة، أعم من أن يستخدم في إسقاطها الهبة أو غيرها.
قال البخاري: (بَابٌ فِي الهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: «إِنْ وَهَبَ هِبَةً، أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ، وَاحْتَالَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ الوَاهِبُ فِيهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَخَالَفَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي الهِبَةِ، وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ) ثم روى حديث: «العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ» .
ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَعَ الكَرَاهَةِ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، الذِي أَفَادَ عِنْدَهُمْ الكَرَاهَةَ لَا التَّحْرِيمَ. إلا أن تزيد الهبة زيادة متصلة، أو يموت أحد المتعاقدين، أو يعوضه الموهوب له عن الهبة، أو يتصرف فيها تصرفًا يخرجها عن ملكه، فليس له حق الرجوع في هذه الصور.
فإذا كانت الهبة لذي رحم محرم فلا رجوع فيها، وكذلك ما وهب أحد الزوجين للآخر. وقد جاء في بعض الأحاديث ما يفيد استثناء الوالد فيما وهبه لولده، حيث يحق له الرجوع في هبته، وَقَدْ أَوَّلَ الأحناف ما جاء في ذلك بأن الوالد يمتلك ما أعطاه لابنه عند الحاجة والفقر، فهو لم يرجع في هبته حينئذٍ، ولكنه شيء أوجبه اللهُ له لفقره وقد وجدنا الشارع يفرق بين من تعود إليه صدقته بفعله، ومن تعود إليه صدقته بسبب خارج عنه، «فَعُمَرُ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه لَمَّا أَرَادَ شِرَاءَ صَدَقَتِهِ مَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» ولكنه لم يمنع
من عادت إليه صدقته بغير فعله، حيث روى أن رجلاً تصدق على أمه بحديقة، ثم ماتت ولم تترك وارثًا غيره، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَجَبَتْ صَدَقَتُكَ، وَرَجَعَتْ إِلَيْكَ حَدِيقَتُكَ» .
وقد أيد الأحناف مذهبهم بما روي عن الصحابة في ذلك، حتى لقد ذكر الطحاوي أن القياس يقتضي خلاف مذهبهم، وأنهم تركوا القياس تقليدًا للآثار واتباعًا لها:«وَقَدْ وَصَفْنَا فِي هَذَا مَا [ذَهَبْتَ] إِلَيْهِ فِي الهِبَاتِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ إِذْ لَمْ نَعْلَمْ عَنْ أَحَدٍ مِثْلِ مَنْ [رَوَيْنَاهَا] عَنْهُ خِلَافًا لَهَا. فَتَرَكْنَا النَّظَرَ مِنْ أَجْلِهَا وَقَلَّدْنَاهَا. وَقَدْ كَانَ النَّظَرُ - لَوْ خَلَّيْنَا وَإِيَّاهُ - خِلَافَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا يَرْجِعَ الْوَاهِبُ فِي الهِبَةِ لِغَيْرِ ذِي الرَّحِمِ المَحْرَمِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْهَا [بِهِبَةِ] إِيَّاهَا، وَصَارَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَهُ فَلَيْسَ لَهُ نَقْضُ مَا [قَدْ] مَلَكَ عَلَيْهِ إِلَّا بِرِضَاءِ مَالِكِهِ. وَلَكِنِ اتِّبَاعُ الْآثَارِ وَتَقْلِيدُ أَئِمَّةِ أَهْلِ العِلْمِ أَوْلَى» (1).
هذا هو رأي الأحناف في الرجوع في الهبة، الذي نقدهم البخاري فيه بقوله: «فَخَالَفَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي الهِبَةِ
…
».
وأما استخدام الهبة في إسقاط الزكاة فلا تتصور إلا بالمواطأة - والإنفاق مع الموهوب له، لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض، فإذا قبضها الموهوب له كان حرًا في التصرف فيها، فلا يتهيأ للواهب الرجوع فيها بعد التصرف، إلا أن يكون هناك اتفاق سابق على أن الهبة صورية. فلو حال الحول على الهبة عند الموهوب له وجبت عليه الزكاة فيها عند الجميع. فإن رجع فيها قبل الحول صح الرجوع عند الأحناف، ويستأنف الحول. فإن كان فعل ذلك مريدًا إسقاط الزكاة سقطت، وهو آثم، لما سبق من أن الأحناف
(1) انظر " معاني الآثار ": 2/ 239، 242. وقد قال الطحاوي عبارته هذه في نهاية بحثه.