الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّانِي: الخُصُومَةُ بَيْنَ المُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَسْبَابُهَا وَنَتَائِجُهَا:
أشرنا في الفصل السابق إلى الخصومة بين المحدثين وغيرهم من المتكلمين وأصحاب الرأي، وفي هذا الفصل بسط لما أوجز في سابقه، ومحاولة لتتبع الأسباب التي أفضت إلى هذه الخصومة، وتفصيل للمآخذ التي طعن بها المحدثون، ومدى صحتها، وبيان لموقف المحدثين منها، وكيف دفعوها عن أنفسهم.
وقد سبق أن ذكرنا أن المعتزلة أصحاب مدرسة عقلية تُمَجِّدُ العَقْلَ وتعتمد عليه وَتُغذِّيهِ بالفلسفات المختلفة، وتجول به بين الديانات والعقائد المتنوعة، مستعينة بنشاط العصر في الترجمة، مستعملة المنطق ومتأدبة بآداب الجدل والمناظرة وملتزمة قوانينا (1).
وبهذا كان التكوين الثقافي للمعتزلة غريباً عمَّا ألفه علماء الحديث والفقه، مما نتج عنه اختلاف في المنهج عند تناول قضايا العقيدة أو مسائل الفروع، وباعد هذا الاختلاف في المنهج بين الطرفين، وحال دون التقاء الاتجاهين،
(1) انظر " ضحى الإسلام ": 1/ 357 وفيه أن رجلاً وصف واصل بن عطاء فقال: «لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِكَلَامِ غَالِيَةِ الشِّيعَةِ وَمَارِقَةِ الخَوَارِجِ وَكَلَامِ الزَّنَادِقَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَالمُرْجِئَةِ وَسَائِرِ المُخَالِفِينَ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ» وفيه أيضًا أن واصل بن عطاء نقض كتاب أرسططاليس وأنه تحدى جعفر البرمكي بقوله: «أَيَّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ: أَنْ أَقْرَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ أَمْ مِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ؟» .
فتبادلا الاتهامات، وبالغ كل من الطرفين في الانتقاص من الطرف الآخر والتشهير به، وَأَلَّفُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا. فالمعتزلة يتهجمون على أهل الحديث في كتب أفردوها لذلك، وأودعوها طعونهم ومآخذهم، ويشير إليها ابن قتيبة بقوله:«فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تُعْلِمُنِي مَا وَقَفْتَ عَلَيْهِ مِنْ ثَلْبِ أَهْلِ الكَلَامِ أَهْلَ الحِدِيثِ وَامْتِهَانِهِمْ، وَإِسْهَابِهِمْ فِي الكُتُبِ بِذَمِّهِمْ» (1).
ومن كتبهم في ذلك كتاب " قبول الأخبار ومعرفة الرجال "(*) لأبي القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي (ت 317 أو 319 هـ) ويقول في مقدمته: «
…
فَإِنِّي لَمَّا عَارَضْتُ شَيْخَنَا أَبَا الحُسَيْنِ رضي الله عنه فِي كِتَابِهِ الذِي طَعَنَ بِهِ عَلَى خَبَرِ الوَاحِدِ، وَقُلْتُ فِي إِثْبَاتِهِ وَإِيجَابِ قَبُولِهِ فِي المَوَاضِعِ التِي ذَكَرْتُهَا وَعَلَى المَوَاضِعِ التِي بَيَّنْتُهَا مَا وُفِّقْتُ إِلَيْهِ - خِفْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَجَاوَزَ الحَدَّ فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِأَخْبَارِ كَثِيرٍ مِنَ المُنْتَسِبِينَ إِلَى الحَدِيثِ وَأَنْ تَغْتَرَّ بِانْتِشَارِ ذِكْرِهِمْ، وَبُعْدِ صَوْتِهِمْ عِنْدَ أَصْحَابِهِمْ، فَعَمَلْتُ كِتَابِي هَذَا، وَذَكَرْتُ لَكَ فِيهِ أَحْوَالَ القَوْمِ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، دُونَ مَا قَالَهُ فِيهِمْ خُصُومُهُمْ، وَوَصَفُوهُمْ بِهِ مِنَ المُنَاقَضَةِ وَالخَطَأِ، لِتَعْرِفَ بِذَلِكَ مِقْدَارَهُمْ» (2).
وَالمُحَدِّثُونَ مِنْ جَانِبِهِمْ يَذُمُّونَ الكَلَامَ وَأَهْلَهُ، ويؤلفون الكتب دفاعًا عن أنفسهم، ولا ينسون أن يشيروا إلى المعتزلة وتهجمهم على أهل الحديث حتى في كتب علوم الحديث، فالرامهرمزي يقول في كتابه:«اعْتَرَضَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَشْنَأُ الحَدِيثَ وَيُبْغِضُ أَهْلَهُ، فَقَالُوا بِتَنَقُّصِ أَصْحَابِ الحَدِيثِ وَالْإِزْرَاءِ بِهِمْ، وَأَسْرَفُوا فِي ذَمِّهِمْ وَالتَّقَوُّلِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ شَرَّفَ اللَّهُ الحَدِيثَ وَفَضَّلَ أَهْلَهُ» (3).
(1)" تأويل مختلف الحديث ": ص 12.
(2)
مصور بدار الكتب المصرية برقم (ب 24251)(*).
(3)
مقدمة كتاب " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي "، للرامهرمزي، تحقيق محمد عجاج الخطيب (**)، مخطوط دار العلوم.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) طبع الكتاب، تحقيق أبي عمرو الحسيني بن عمر بن عبد الرحيم، طبعة سنة 2000 م، 839 صفحة، (2 مجلد). نشر دار الكتب العلمية.
(**)" المحدث الفاصل بن الراوي والواعي "، للقاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (ت 360 هـ)، قدم له وحققه وخرج أخباره وعليق عليه ووضع فهارسه الدكتور محمد عجاج الخطيب، الطبعة الأولى: 1391 هـ - 1971 م، دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت - لبنان، (686 صفحة).
ويؤلِّف الخطيب كتابًا يُسَمِّيهِ " شرف أصحاب الحديث "(*) يقول في مقدمته: «فَقَدْ وَقَفْنَا عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ عَيْبِ المُبْتَدِعَةِ لِأَهْلِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ وَطَعْنِهِمْ عَلَى مَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِسَمَاعِ الْأَحَادِيثِ وَحِفْظِ الْأَخْبَارِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِصَحِيحِ مَا نَقَلَهُ إِلَى الْأُمَّةِ الْأَئِمَّةُ الصَّادِقُونَ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِأَهْلِ الحَقِّ فِيمَا وَضَعَهُ عَلَيْهِمُ المُلْحِدُونَ {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وَلَيْسَ ذَاكَ عَجِيبًا مِنْ مُتَّبِعِي الْهَوَى وَمَنْ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْهُدَى وَمِنْ وَاضِحِ شَأْنِهِمُ الدَّالُّ عَلَى خِذْلَانِهِمْ صُدُوفُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَتَرْكِهِمُ الْحِجَاجَ بِآيَاتِهِ الوَاضِحَةِ الْبُرْهَانِ وَاطِّرَاحِهِمُ السُّنَنَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَتَحَكُّمِهِمْ فِي الدِّينِ بِآرَائِهِمْ فَالْحَدَثُ مِنْهُمْ مَنْهُومٌ بِالْغَزَلِ وَذُو السِّنِّ مَفْتُونٌ بِالكَلَامِ وَالْجَدَلِ قَدْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ وَأَرْسَلَ نَفْسَهُ فِي مَرَاتِعِ الهَلَكَاتِ وَمَنَّاهُ الشَّيْطَانُ دَفْعَ الحَقِّ بِالشُّبُهَاتِ إِنْ عُرِضَ عَلَيْهِ بَعْضُ كُتُبِ الْأَحْكَامِ المُتَعَلِّقَةِ بِآثَارِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ السَّلَامِ نَبَذَهَا جَانِبًا وَوَلَّى ذَاهِبًا عَنِ النَّظَرِ فِيهَا يَسْخَرُ مِنْ حَامِلِهَا وَرَاوِيهَا مُعَانَدَةً مِنْهُ لِلدِّينِ وَطَعْنًا عَلَى أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ ثُمَّ هُوَ يَفْتَخِرُ عَلَى العَوَامِ بِذَهَابِ عُمْرِهِ فِي دَرْسِ الكَلَامِ وَيَرَى جَمِيعَهُمْ ضَالِّينَ سِوَاهُ وَيَعْتَقِدُ أَنْ لَيْسَ يَنْجُو إِلَّا إِيَّاهُ لِخُرُوجِهِ زَعَمَ عَنْ حَدِّ التَّقْلِيدِ وَانْتِسَابِهِ إِلَى الْقَوْلِ بِالْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ
…
» (1).
ثم يروي الخطيب ما رُوِيَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على التبليغ عنه، وَمَا رُوِيَ عن الصحابة والعلماء في فضل الحديث وأهله.
ومن قبل الرامهرمزي والخطيب كتب ابن قتيبة كتابه " تأويل مختلف الحديث "، وَدَافَعَ عَنْ المُحَدِّثِينَ، وَبيَّنَ مخارج الأحاديث التي زعم أهل
(1) مخطوط مكتبة الأزهر برقم 2019 حديث. ضمن مجموعة رقم الكتاب فيها من 64 - 117 وقد صححنا بعض ما في العبارة من تصحيف وأخطاء (*).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*)" شرف أصحاب الحديث "، للخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، تحقيق الدكتور محمد سعيد خطي اوغلي، (مجلد واحد)، 191 صفحة، نشر دار إحياء السنة النبوية. أنقرة - تركيا.
الكلام أنها متناقضة أو معارضة للعقل، ويشير الخطيب إلى هذا الكتاب فيقول:«قَدْ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُؤَلَّفِ فِي تَأْوِيلِ مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنَ الطَّعْنِ عَلَى أَصْحَابِ الحَدِيثِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ فَسَادِ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ، مَا فِيهِ مُقْنِعٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِرُشْدِهِ، وَرَزَقَهُ السَّدَادَ فِي قَصْدِهِ» (1)
ولنا أنْ نتساءل: ما الذي نقمه المعتزلة من المُحَدِّثِينَ؟ وما الذي أنكره المُحَدِّثُونَ على المعتزلة؟
أما ما نقمه المعتزلة على المُحَدِّثِينَ فقد حكاه ابن قتيبة في مقدمة كتابه " تأويل مختلف الحديث " ويمكن أن نلخصه فيما يأتي:
[أ] كثرة الأحاديث المختلفة والمتناقضة، بحيث تجد كل فرقة في هذه الأحاديث ما تحتج به على صحة ما ذهبت إليه، مع ما بين هذه الفرق من التضاد والنفرة، سواء في العقائد كالخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة وغيرها، أو في الفروع كاختلاف العراقيين والحجازيين. والتناقض لا يمكن أن يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي هذه المتناقضات ما هو كذب، والمحدثون يحملونه (2).
[ب] روايتهم للأحاديث الموضوعة التي تجافي تنزيه الله سبحانه وتعالى، وتتنافر مع روح الإسلام، إذ تبرزه كأنه يتآلف مع العقائد التي تدعو إلى التجسيم والتشبيه والحلول (3).
[ج] تناقضهم في الجرح والتعديل «قَالُوا: وَمِنْ عَجِيبِ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَ
(1) المصدر السابق ورقه (68) وانظر في اختلاف الحديث ومشلكه والفرق بينهما رسالة " أبو جعفر الطحاوي وأثره في الحديث ": ص 171، 190، وهناك ترى نَقْدَ المُحَدِّثِينَ لابن قتيبة في اختلاف الحديث.
(2)
" تأويل مختلف الحديث ": 2، 7.
(3)
انظر المرجع السابق: 7، 10.
الشَّيْخَ إِلَى الْكَذِبِ وَلَا يَكْتُبُونَ عَنْهُ مَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ، بِقَدْحِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بن المَدِينِيّ وَأَشْبَاهَهُمَا. وَيَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - فِيمَا لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
…
وَيُبَهْرِجُونَ الرَّجُلَ بِالقَدَرِ، فَلَا يَحْمِلُونَ عَنْهُ كَغَيْلَانَ، وَعَمْرَو بْنِ عُبَيْدٍ وَمَعْبَدَ الجُهَنِيِّ، وعَمْرو بْنِ فَائِدٍ، وَيَحْمِلُونَ عَنْ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَقَالَتِهِمْ، كَقَتَادَةَ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ
…
» (1).
[د] جَهْلُهُمْ بِمَا يَرْوُونَهُ، وَوُقُوعِ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ مِنْهُمْ، وَقالُوا فِي ذَلِكَ:
زوامِلُ لِلأشْعَارِ، لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ
…
بِجَيِّدِهَا إِلَاّ كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ
لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إِذَا غَدَا
…
بِأَحْمَالِهِ أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ
وَرَضُوا بِأَنْ يُقَال: فُلَانٌ عَارِفٌ بِالطُّرُقِ، وَرَاوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ، وَزَهِدُوا فِي أَنْ يُقَالَ: عَالِمٌ بِمَا كَتَبَ، أَوْ عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ. [ثُمَّ رَوَوْا طَرَفًا مِنْ أَخْبَارِ تَصْحِيفِهِمْ وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ](2)(*).
هذا موجز لما حكاه ابن قتيبة مما أخذه المتكلمون على أهل الحديث وَقَدْ رَدَّ ابن قتيبة على المعتزلة، مدافعًا عن أهل الحديث، مُفنِّدًا ما أخذ عليهم.
أما بالنسبة للأحاديث المختلفة والمشكلة، أو بعبارة أخرى: الآحاديث التي ظنها المتكلمون مختلفة أو مشكلة، فلا اختلاف فيها ولا إشكال في الحقيقة، ولو ردوها إلى أهل العلم بها لوضح لهم المنهج، ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة وحب الاتباع، وقد ألف ابن قتيبة كتابه هذا لينفي التعارض والإشكال عن الحديث، كما ألف غيره في هذا الموضوع.
(1) المصدر نفسه: 10، 11.
(2)
المرجع نفسه: 11 - 14.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) هذه الجملة التي وضعتها بين [.....] لم أجدها في " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة. لعلها من تعليق المؤلف.
وأما بالنسبة للاتهام الثاني، وهو حمل الضعيف ورواية الموضوعات من الأحاديث فَيُفَنِّدُهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِقَوْلِهِ: «وَقَدْ يَعِيبُهُمُ الطَّاعِنُونَ بِحَمْلِهِمُ الضَّعِيفَ، وَطَلَبِهِمْ الغَرَائِبَ، وَفِي الغَرِيبِ الدَّاءُ. وَلَمْ يَحْمِلُوا الضَّعِيفَ وَالغَرِيبَ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُمَا حَقًّا، بَلْ جَمَعُوا الغَثَّ وَالسَّمِينَ، وَالصَّحِيحَ وَالسَّقِيمَ، لِيُمَيِّزُوا بَيْنَهُمَا، وَيَدُلُّوا عَلَيْهِمَا، وَقَدْ فَعَلُوا
…
» (1)، ثم أورد جملة من الأحاديث التِي نَبَّهَ المُحَدِّثُونَ على بطلانها، ومنها أحاديث وضعها الزنادقة ليُشَنِّعُوا بها على المسلمين وعلى أهل الحديث.
والحق أَنَّ المُحَدِّثِينَ في تحقيقهم للنصوص، ونقدهم للحديث شكلاً وموضوعًا أو إسنادًا ومتنًا، منذ وقت مبكر للعصور الأولى للإسلام ليدخلون في زمن الأوائل القلائل الذين يرتادون ميدان البحث العلمي المنهجي على غير مثال يُحْتَذَى أَوْ نَمُوذَجٍ يُقلَّدُ، وكان يدفعهم إلى ذلك غيرة على الدين وجهاد في سبيله، فَبَنَوْا سدودًا منيعة أمام سيل الوضع من الزنادقة وغيرهم من خصوم الإسلام. وقد شكا أحد الناس كثرة الأحاديث الموضوعة إلى أحد علماء الحديث - هو ابن المبارك - فرد عليه بأن الجهابذة من النُقَّادِ لها بالمرصاد (2)(*).
ورد ابن قتيبة التهمة الثالثة مُبَيِّنًا أَنَّ المُحَدِّثِينَ أخذوا عن المبتدعة ما لا يحتجون به لمذاهبهم إذا كانوا صادقين: «وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الحَدِيثَ عَنْ رِجَالٍ مِنْ مُخَالِفِيهِمْ، كَقَتَادَةَ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الكِتَابَةِ عَنْ مِثْلِهِمْ، مِثْلَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَمْرِو بْنِ فَائِدٍ، وَمَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الذِينَ كَتَبُوا عَنْهُمْ، أَهْلُ عِلْمٍ وَأَهْلُ صِدْقٍ فِي الرِّوَايَةِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ، فَلَا بَأْسَ بِالكِتَابَةِ عَنْهُ، وَالعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، إِلَّا فِيمَا اعْتَقَدَهُ مِنَ الهَوَى،
(1) المصدر نفسه: 89، 91.
(2)
انظر " تقدمة الجرح والتعديل ": ص 3، وانظر في الوضع وأسبابه وجهود المحدثين في القضاء عليه " السنة قبل التدوين ": ص 185، 287.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) قول عبد الله بن المبارك: «تَعِيشُ لَهَا الجَهَابِذَةُ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]» ، حِينَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الأَحَادِيثُ المَوْضُوعَةُ!!؟. انظر: " السنة قبل التدوين "، للدكتور محمد عجاج الخطيب، ص 220، الطبعة الثانية: رمضان 1408 - أبريل 1988 م، نشر مكتبة وهبة - مصر.
فَإِنَّهُ لَا يَكْتُبُ عَنْهُ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الثِّقَةَ العَدْلَ، تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا لابْنِهِ، وَلَا لأَبِيهِ، وَلَا فِيمَا جرَّ إِلَيْهِ نَفَعًا، أَوْ دَفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا. وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الصَّادِقِ، فِيمَا وَافَقَ نِحْلَتَهُ، وَشَاكَلَ هَوَاهُ، لأَنَّ نَفْسَهُ تُرِيهِ أَنَّ الحَقَّ فِيمَا اعْتَقَدَهُ، وَأَنَّ القُرْبَ إِلَى اللَّهِ عز وجل فِي تَثْبِيتِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَلَا يُؤْمَنُ مَعَ ذَلِكَ، التَّحْرِيفُ، وَالزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ» (1).
وبالنسبة للاتهام الرابع أجاد ابن قتيبة في دفعه، مُبَيِّنًا أنَّ المُحَدِّثِينَ صِنْفٌ فِيهِمْ الجَيِّدُ والرَدِيء، وأنه لا وجه لتخصيص أهل الحديث بإحصاء السقطات عليهم وعيبهم بذلك، فقال: «وَأَمَّا طَعْنُهُمْ عَلَيْهِمْ بِقِلَّةِ المَعْرِفَةِ لِمَا يَحْمِلُونَ، وَكَثْرَةِ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ، فَإِنَّ النَّاسَ لاّ يَتَسَاوُونَ جَمِيعًا فِي المَعْرِفَةِ وَالفَضْلِ، وَلَيْسَ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ إِلَاّ وَلَهُ حَشْوٌ وَشَوْبٌ، فَأَيْنَ هَذَا العائب لَهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِكُلِّ فَنٍّ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، [وَابْنِ عَوْنٍ]، وَأَيُّوبَ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَشُعْبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبَارَكِ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنَ المُتْقِنِينَ؟.
عَلَى أَنَّ المُنْفَرِدَ بِفَنٍّ مِنَ الفُنُونِ، لَا يُعَابُ بِالزَّلَلِ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَلَى المُحَدِّثِ عَيْبٌ أَنْ يَزِلَّ فِي الإِعْرَابِ، وَلَا عَلَى الفَقِيهِ أَنْ يَزِلَّ فِي الشِّعْرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ أَنْ يُتْقِنَ فَنَّهُ، إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَانْعَقَدَتْ لَهُ الرِّئَاسَةُ بِهِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْوَاحِدِ عُلُومٌ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ يُؤْتِي الفَضْلَ مَنْ يَشَاءُ
…
وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالأَدَبِ إِلَاّ وَقَدْ أَسْقَطَ فِي عِلْمِهِ كَالأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَسِيبَوَيْهِ، وَالَاخْفَشِ، وَالكِسَائِيِّ، وَالفَرَّاءِ، وَأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَكَالأَئِمَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ،
(1)" تأويل مختلف الحديث ": ص 102، 103.
وَالْأَئِمَّةِ مِنَ المُفَسِّرِينَ. وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ عَلَى الشُّعَرَاءِ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالإسْلامِ الخَطَأَ فِي المَعَانِي وَفِي الإعْرَابِ، وَهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَبِهِمْ يَقَعُ الاحْتِجَاجُ. فَهَلْ أَصْحَابُ الحَدِيثِ فِي سَقَطِهِمْ إِلَاّ كَصِنْفٍ مِنَ النَّاسِ؟» (1).
وبعد أن عرضنا لمآخذ المتكلمين على المحدثين، وما دافع به المحدثون عن أنفسهم، ننتقل إلى استعراض مآخذ أهل الحديث على المعتزلة من وجهة نظر ابن قتيبة أيضًا. وهي تتلخص فيما يأتي:
[أ] كثرة خلاف المعتزلة مما نتج عنه كثرة فرقهم، وإذا كانت الأحاديث المختلفة هي السر في اختلاف الفقهاء كما زعموا، فما الذي جعل المعتزلة يختلفون مع أنهم يعتمدون على العقل والنظر، ولو كان اختلاف المعتزلة في الفروع لاتسع لهم العذر، ولكن اختلافهم في العقائد «وَقَدْ كَانَ يَجِبُ -[مَعَ] مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ القِيَاسِ وَإِعْدَادِ آلَاتِ النَّظَرِ- أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا
…
فَمَا بَالُهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ اخْتِلَافًا، لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فِي الدِّينِ.
فَأَبُو الهُذَيْلِ العَلَّافُ يُخَالِفُ النَّظَّامَ، وَالنَّجَّارُ يُخَالِفُهُمَا، وَهِشَامُ بْنُ الحَكَمِ يُخَالِفُهُمْ
…
لَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ إِلَّا وَلَهُ مَذْهَبٌ فِي الدِّينِ، يُدَانُ بِرَأْيهِ وَلَهُ عَلَيْهِ تَبَعٌ» (2).
[ب] انحرافات بعض أئمتهم سواء في سلوكهم أو في آرائهم في العقيدة والفروع (3).
[ج] تهجم بعضهم على الصحابة وَجُرْأتُهُمْ عَلَيْهِمْ. وتجريحهم لهم، وانتقاصهم إياهم، كما جَرَّحَ النَّظَّامُ أبا بكر وعمر وابن مسعود وأبا هريرة وحُذيفة وغيرهم (4).
(1)" تأويل مختلف الحديث ": 93، 96.
(2)
المصدر السابق: 16، 17.
(3)
" تأويل مختلف الحديث ": 21، 62.
(4)
المصدر السابق: 34، 53.
[د] رَفْضُ بعضهم لِلْسُّنَّةِ أَصْلاً وعدم اعتبارها أصلاً من أصول التشريع، ورَفْضُ بعضهم خبر الآحاد وعدم اعترافه إلاّ بالخبر المتواتر، وقد ناقش هذين الإمام الشافعي رضي الله عنه (1)، أما الذين قبلوا أخبار الآحاد منهم فقد اختلفوا اختلافًا كبيرًا في شروط قبولها ممّا قد يظن معه عزوفهم عن السنة، «فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَثْبُتُ الخَبَرُ بِالوَاحِدِ الصَّادِقِ، وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (2) قَالُوا: وَأَقَلُّ مَا تَكُونُ الطَّائِفَةُ ثَلَاثَةٌ، وَغَلَطُوا فِي هَذَا القَوْلِ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ تَكُونُ وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَكْثَرَ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ بِمَعْنَى القِطْعَةِ، وَالوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ قِطْعَةً مِنَ القَوْمِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) يُرِيدُ الوَاحِدَ وَالاِثْنَيْنِ، وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِأَرْبَعَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (4)، وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِاثْنَيْ عَشَرَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} (5)، وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِعِشْرِينَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (6) وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِسَبْعِينَ رَجُلاً، لِقَوْلِهِ عز وجل:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} (7)، فَجَعَلُوا كُلَّ عَدَدٍ ذُكِرَ فِي القُرْآنِ حُجَّةً فِي صِحَّةِ الخَبَرِ» (8).
(1) انظر " الرسالة ": 269، 470؛ و" الأم ": 7/ 250، 263.
(2)
[التوبة: 122].
(3)
[النور: 2].
(4)
[النور: 13].
(5)
[المائدة: 12].
(6)
[الأنفال: 65].
(7)
[الأعراف: 155].
(8)
" تأويل مختلف الحديث ": 78، 79.
[هـ] تَعَسُّفُهُمْ في تأويل القرآن لحمله على مذاهبهم. «وَفَسَّرُوا القُرْآنَ بِأَعْجَبِ تَفْسِيرٍ، يُرِيدُونَ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَيَحْمِلُوا التَّأْوِيلَ عَلَى نِحَلِهِمْ» (1).
هذا موجز لمآخذ المحدثين على المعتزلة كما عرضها ابن قتيبة ونضيف إليها ما سبق أن ذكرناه من أن أهم ظاهرة أساءت إلى المعتزلة وَنَفَّرَتْ مِنْهُمْ جُمْهُورَ الأُمَّةِ هي محاولتهم حمل الناس على آرائهم بالقوة، وسعيهم في قهر المُحَدِّثِينَ على أن يعترفوا بأن كل آرائهم المخالفة للمعتزلة أخطاء توجب عليهم التوبة والاستغفار.
على أننا ينبغي أن نلاحظ أن المآخذ السابقة هي ظواهر للخلاف، أما السبب الرئيسي أو جوهر الخلاف فيجدر بنا أن نستخرجه من نشأة المعتزلة الذين أَدُّوا دَوْرًا هَامًّا فِي الفِكْرِ الإِسْلَامِيِّ، والذين كانوا من مظاهر الصحة له في النصف الأول من القرن الثاني، حيث هَالَهُمْ هذا الحشو الكبير الذي دخل في الحديث مما كان التسليم به يُشَوِّهُ جوهر الإسلام، بل كان فيما دخل في الحديث دعوة صريحة إلى التجسيم والحلول والثنوية وغيرها من الأفكار الدخيلة التي تتسرب بسرعة إلى العامة، وتجد لها في صفوف المُحَدِّثِينَ وبعض المشهورين في العلم أئمة يدعون إليها كمقاتل بن سليمان (2). ومن ثَمَّ أخذ أوائل المعتزلة يحاربون هذه الأحاديث لا عن طريق السند فقط بل عن طريق العقل أيضًا، والحملة على هذه الأحاديث تستتبع الحملة على رُواتها من المُحَدِّثِينَ، بل يذهب بعضهم في سوء الظن إلى غايته فيشك في الحديث كله. وفي الرُواة كلهم حتى الصحابة. إن منهج السلف لم يعد يعجبهم، منهج التمسك بالظاهر وعدم التأويل إذ في هذا حَجْرٌ عَلَى العَقْلِ، ولا غناء فيه لمن يبغي محاربة أعداء الإسلام ممن لا يؤمن بالنقل، بَلْ يَتَسَلَّحُ بالمنطق والفلسفة والجوهر.
(1) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 80 وما بعدها.
(2)
يقول ابن الجوزي: «وَاعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ المُحَدِّثِينَ حَمَلُوا ظَاهِرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ البَارِي سُبْحَانَهُ عَلَى مُقْتَضَى الحِسِّ فَشَبَّهُوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِطُوا الفُقَهَاءَ» " تلبيس إبليس ": ص 113.
والعرض، وهكذا ظهر (العقل) في مقابلة (النقل)، و (التأويل) مقابلاً لـ (التقليد)، وظهر (التوفيق) و (الدراية) مقابلة لـ (الرواية)، وبدأ النزاع عنيفًا، تتدخل فيه السياسة أحيانًا والتنافس العلمي أحيانًا أخرى، ويوجد من الفريقين متطرفون يبعدون بتطرفهم عن قصد الإسلام وَمَنْهَجِهِ السَّوِيِّ، وينسى هؤلاء وهؤلاء الغاية المشتركة بين المخلصين منهم وهي تنزيه الله سبحانه والدفاع عن الإسلام فيستغرقون في الخصومة حتى تصل بهم إلى المُهاترة، فيبالغون في التشويه والاستهزاء ويتناول كل من الطرفين الجانب السيء من خصمه فيذيعه ويجعله عَلَمًا عَلَيْهِ، ويغفل فيه جانبه الوضيء ويواريه.
لقد أطلق المعتزلة ألسنتهم في أهل الحديث، واتهموهم بالجمود والغفلة، وعدم الفطنة، «وَقَدْ لَقَّبُوهُمْ بِالحَشْوِيَّةِ، وَالنَّابِتَةِ، وَالمُجَبِّرَةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: الجَبْرِيَّةَ. وَسَمَّوْهُمُ الغُثَاءَ وَالغُثْرَ» (1).
ويشير كتاب المأمون الذي أرسله إلى عامله إسحاق بن إبراهيم بخصوص محنة خلق القرآن - يشير إلى استعلاء المعتزلة وغُرورهم الفكري، من مثل قوله: «وَقَدْ عَرَفَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَنَّ الجُمْهُورَ الأَعْظَمَ، وَالسَّوَادَ الأَكْبَرَ مِنْ حَشْوِ الرَّعِيَّةِ وَسَفَلَةِ العَامَّةِ، مِمَّنْ لَا نَظَرَ لَهُ وَلَا رَوِيَّةَ، وَلَا اسْتِدْلَالَ لَهُ بِدَلَالَةِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ، وَلَا اسْتِضَاءَةً بِنُورِ العِلْمِ وَبُرْهَانِهِ، فِي جَمِيعِ الأَقْطَارِ وَالآفَاقِ - أَهْلِ جَهَالَةٍ بِاللَّهِ وَعُمْيٍ عَنْهُ، وَضَلَالَةٍ عَنْ حَقِيقَةِ دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ
(1) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 96 والمقصود بالحشوية هو الذين أدخلوا كثيراً من الإسرائيليات والغرائب في الحديث وحشوه بالموضوعات، ويعتبر الشيعة الجمهور العظيم أهل حشو، لأنهم قالوا إن النبي مات ولم يستخلف أحدًا. (انظر " نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ": 1/ 601 وما بعدها)، وأصل الغثاء الزبد والوسخ الذي يحمله السيل، والغثر جمع أغثر: سفلة الناس وأرذلهم.
وَالإِيمَانِ بِهِ، وَنُكُوبٍ عَنْ وَاضِحَاتِ أَعْلَامِهِ وَوَاجِبِ سَبِيلِهِ .. لِضَعْفِ آرَائِهِمْ وَنَقْصِ عُقُولِهِمْ، وَجَفَائِهِمْ عَنْ التَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ». ويقول عن المحدثين:«ثَمَّ هُمْ الذِينَ جَادَلُوا بِالبَاطِلِ فَدَعُوا إِلَى قَوْلِهِمْ وَنَسَبُوا أَنَفْسَهُمْ إِلَى السُّنَّةِ .. ثَمَّ أَظْهَرُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَهْل الحَقِّ وَالدِّينِ وَالجَمَاعَةِ، وَأَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ أَهْلُ البَاطِلِ وَالكُفْرِ وَالفُرْقَةِ، فَاسْتَطَالُوا بِذَلِكَ عَلَى النَّاسِ وَغَرُّوا بِهِ الجُهَّالَ، حَتَّى مَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السَّمْتِ الكَاذِبِ وَالتَّخَشُّعِ لَغَيْرِ اللَّهِ وَالتَّقَشُّفِ لَغَيْرِ الدِّينِ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ عَلَيْهِ وَمُوَاطَأَتِهِمْ عَلَى سَيِّئِ آرَائِهِمْ، تَزَيُّنًا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَتَصَنُّعًا لِلْرِّيَاسَةِ وَالعَدَالَةِ فِيهِمْ، فَتَرَكُوا الحَقَّ إِلَى بَاطِلِهِمْ، وَاِتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ إِلَى ضَلَالَتِهِمْ، فَقَبِلَتْ بِتَزْكِيَتِهِمْ لَهُمْ شِهَادَتَهُمْ وَنَفَّذَتْ أَحْكَامَ الكِتَابِ بِهِمْ، عَلَى دَغَلِ دِينِهِمْ وَنَغَلِ أَدِيمِهِمْ، وَفَسَادِ نِيَّاتِهِمْ وَيَقِينِهِمْ» (1).
ثم يعلق ابن قتيبة بقوله: «وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ [الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ]، غُرَّةُ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فِي العِلْمِ، وَالْفِقْهِ، وَالْاجْتِهَادِ فِي العِبَادَةِ، وَطِيبِ الْمَطْعَمِ» (2).
(1)" عصر المأمون " للدكتور أحمد فريد رفاعي: ج 3 ص 5. ط. دار الكتب 1346 هـ. وقد أنكر الأستاذ الشيخ أبو زهرة نسبة الكتب الخاصة بالمحنة إلى المأمون وَرجَّحَ أنها من إنشاء أحمد بن أبي داود (انظر " ابن حنبل " لأبي زهرة: ص 59، 60؛ و" المذاهب الإسلامية " له: ص 259، 260)، ولكن الأستاذ عبد العزيز عبد الحق في مقدمة ترجمته لكتاب " أحمد بن حنبل والمحنة " للمستشرق (ولتر ملفيل باتون)، ذهب إلى غير ذلك وقال:«وَلَو حَقَّقْنَا هَذَا الرَّأْيَ تَحْقِيقًا تَارِيخِيًّا لَوَجَدْنَا فِي مَصَادِرِنَا العَرَبِيَّةِ مَا يَنْقُضُهُ» انظر " أحمد بن حنبل والمحنة ": ص 33، 37) وعلى الرأيين جميعًا فالكتاب يمثل نظرة المعتزلة لأهل الحديث.
(2)
" تأويل مختلف الحديث ": ص 100، 101.