الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دائمًا إلى شيء من الشذوذ والحرج، مما رأينا أمثلة له قبل ذلك بقليل، ومن أمثلته أيضًا أن ابن حزم أبطل الصيام بارتكاب معصية ما، أَيًّا كانت هذه المعصية، وفي ذلك يقول:«وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ أَيْضًا تَعَمُّدُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ - أَيِّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ، لَا نُحَاشِ شَيْئًا - إذَا فَعَلَهَا عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، كَمُبَاشَرَةِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ، أَوْ تَقْبِيلِ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ المُبَاحَتَيْنِ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ، أَوْ إتْيَانٍ فِي دُبُرِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ كَذِبٍ، أَوْ غِيبَةٍ، أَوْ نَمِيمَةٍ، أَوْ تَعَمُّدِ تَرْكِ صَلَاةٍ، أَوْ ظُلْمٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا حَرُمَ عَلَى المَرْءِ فِعْلُهُ؟» . واحتج لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا [يَصْخَبْ] فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ؟ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ» . وبالحديث الشريف: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» . ثم روى عن أنس بن مالك: «إذَا اغْتَابَ الصَّائِمُ أَفْطَرَ» ، وَعَنْ النَّخَعِيِّ قَالَ:«كَانُوا يَقُولُونَ: الْكَذِبُ يُفْطِرُ الصَّائِمَ» (1).
مع ملاحظة أنه لا يروي قول أنس وإبراهيم النخعي للاحتجاج، ولكن ليبين أنه غير شاذ فيما ذهب إليه.
وبهذا المنطق أيضًا يؤكد ابن حزم أن كل فسوق يتعمده المحرم في الحج ذاكرًا لإحرامه، فقد بطل إحرامه وحجه وعمرته، لقول الله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2).
نَقْلُ النُّصُوصِ فِي المِيزَانِ الظَّاهِرِي:
هذه صورة لجانب هام من الفقه الظاهري في فهمه للنصوص، رأينا
(1)" المحلى ": 6/ 174، 179.
(2)
" المحلى ": 7/ 195، 196. وانظر 7/ 415، 416 وما استدل به من الآية [البقرة: 197].
فيها كيف يأخذ بظاهر اللفظ في الأوامر والنواهي، لا يؤولها ولا يبعد عنها. فالنص هو محور المنهج الظاهري، والحجة مقصورة عليه، والأخذ بالظاهر المتبادر من ألفاظ النص - التزام عند الظاهرية، يجب التقيد به والوقوف عنده.
والذي يُقَلِّبُ كُتُبَ ابن حزم - فيلسوف الظاهرية وأصوليهم - سيجد أن كلمة «النَّصَّ» ومشتقاتها كثيرة الدروان والشيوع فيها، لا تكاد صفحة من صفحات كتبه تخلو منها.
وابن حزم ينكر بشدة أن توجد مسألة لا نص فيها، بل كل مسألة في الدين ففيها نص ولا بد إِنْ خَاصًّا، وَإِنْ كَانَ عَامًّا. ويقول في ذلك: «وَاعْلَمُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذِهِ المَسْأَلَةَ لَا نَصَّ فِيهَا قَوْلٌ بَاطِلٌ وَتَدْلِيسٌ فِي الدِّينِ، وَتَطْرِيقٌ إِلَى هَذِهِ العَظَائِمِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يُحَرِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ مَاتَ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ حَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا
…
} [البقرة: 29] وَقَوْلِهِ: {
…
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] وَكُلُّ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عليه السلام فَلَمْ يُوجِبْهُ
…
» (1).
ولو حاولنا أن نصف المنهج الظاهري في أسطر قليلة، لوضح لنا ثقل كلمة (النَّصِّ) في الميزان الظاهري ومدى تقيده به:
[أ] فالمبادرة إلى إنفاذ الأمر واجبة إلى أن يفيد التأخير نص آخر أو إجماع فيوقف عنده (2).
[ب] والأمر والنهي على الوجوب في الفعل والترك، إلا أن يأتي
(1)" الإحكام ": 4/ 140. والآية الأولى هي 29 من سورة البقرة. والثانية 119 من سورة الأنعام.
(2)
انظر " الإحكام ": 3/ 45؛ و" النبذ " لابن حزم أيضًا: ص 27، 28.
نص يصرفه عن ذلك، ولا عبرة بما يقال من أن الأمر بعد الحظر يكون للإباحة (1).
[ج] يجب ألا تؤول النصوص عن ظاهرها إلا بنص آخر صريح مخبر أن النص على غير ظاهره. «فَالثِّيَابُ» في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، هي ثياب حقيقية مأمور بتطهيرها، لأنه لم يأت نص بصرفها عن ذلك، أما «الظُّلْمُ» في قوله تعالى:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، فقد جاء نص الرسول صلى الله عليه وسلم يبين أن المراد به «الشِّرْكَ» كما في قوله سبحانه:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ويقوم مقام النص في ذلك - الضرورة المانعة من حمله على ظاهره، كقوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] فبيقين الضرورة والمشاهدة، ندري أن جميع الناس لم يقولوا:«إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» (2).
[د] لا يحل القول بدليل الخطاب، لأنه مسكوت عنه ولا نص فيه، ودليل الخطاب هو الذي يعرف بمفهوم المخالفة، وهو ثبوت نقيض حكم المنطوق به لمسكوت عنه، ويقول عنه ابن حزم: «إِنَّ هَذَا المَذْهَبَ وَالقِيَاسَ ضِدَّانِ مُتَفَاسِدَانِ، لِأَنَّ القِيَاسَ هُوَ أَنْ يَحْكُمَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِحُكْمِ المَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَكِلَا المَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُمَا [تَعَدِّي لِـ](*) حُدُودِ اللَّهِ، وَتَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا الحَقُّ أَنْ تُؤْخَذَ الأَوَامِرُ كَمَا وَرَدَتْ، وَأَلَّا يُحْكَمَ لِمَا لَيْسَ فِيهَا بِمِثْلِ حُكْمِهَا، وَلَكِنْ يَطْلُبُ الحُكْمَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَصٍّ آخَرَ، فَلَمْ يُفَرِّطْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الكِتَابِ شَيْئًا، لِأَنَّ القِيَاسَ إِدْخَالُ المَسْكُوتِ عَنْهُ فِي حُكْمِ
(1) انظر ما سبق في الصفحتين السابقتين، وانظر " الإحكام ": 3/ 76، 80، وبعض الأمثلة في ص 140 من نفس الجزء.
(2)
انظر " النبذ ": ص 24، 25 والآية الأولى هي 4 من سورة المدثر، والثانية 82 من سورة الأنعام، والثالثة 13 من سورة لقمان، والأخيرة 172 من سورة آل عمران.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع (لأنهما تعدى حدود الله) والصواب ما أثبته، انظر " النبذ في أصول الفقه الظاهري "، للإمام ابن حزم، تحقيق محمد صبحي حسن حلاق، الطبعة الثانية: 1420 هـ - 1999 م، ص 112، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت - لبنان.
المَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَدَلِيلُ الخِطَابِ إِخْرَاجُ المَسْكُوتِ عَنْهُ عَنْ حُكْمِ نَفْسِهِ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَحِلُّ
…
» (1).
[هـ] لا يصح تعليل نص إلا إذا جاء النص مُبَيِّنًا لِعِلَّتِهِ (2).
[و] إذا كانت العلة منصوصة، فيجب الوقوف عندها، وعدم تعديتها إلى غير ما جاءت مبينة له، «وَإِذَا نَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ حُكْمَ كَذَا فِي أَمْرٍ كَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّى بِذَلِكَ الحُكْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ المَحْكُومِ فِيهِ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " أَمَّا السِّنُّ فَإِنَّهُ عَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ " فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَتَعَدَّى بِهَذَا الحُكْمِ السِّنَّ وَالظُّفُرَ» (3).
[ز] أقوال الرسول فقط هي التي تفيد الوجوب، لأنها هي الملفوظة المنصوصة، أما أفعاله عليه الصلاة والسلام فحكمها القدوة والندب، إلا ما كان منها بيانًا لأمر، أو تنفيذًا لحكم، وأما تقريراته فحكمها الإباحة (4).
وقد ذهب ابن حزم إلى التسليمة الأولى في الصلاة فرض. أما الثانية فهي سنة. «وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْنِ جَمِيعًا فَرْضًا كَمَا قَالَ الحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: فَلأَنَّ الثَّانِيَةَ إنَّمَا هِيَ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَتْ أَمْرًا مِنْهُ عليه السلام، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَمْرُهُ لَا فِعْلُهُ» (5).
(1)" النبذ ": ص 52، 53.
(2)
انظر " الإحكام "، لابن حزم: 8/ 102؛ و" ابن حزم "، للأستاذ محمد أبي زهرة: ص 394، 410.
(3)
" النبذ ": ص 52، 53.
(4)
انظر " النبذ ": ص 29، 32؛ و" الإحكام ": 4/ 29، 58. و 3/ 154.
(5)
" المحلى ": 4/ 132.