الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّانِي: بَيْنَ البُخَارِيِّ وَأَهْلِ الرَّأْيِ:
رأينا في الفصل السابق كيف أن ابن أبي شيبة قد وجه نقده إلى أبي حنيفة على وجه الخصوص. أما البخاري، فالخصومة بينه وبين أهل الرأي، خصومة عامة لا تقتصر على أبي حنيفة، بل نقده قد يكون موجهًا إليه، وقد يكون موجهًا إلى غيره من أصحابه، ولذلك لم يصرح باسم مخالفه أو صفته، وإنما عبر عنه بقوله:«وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ» (*).
وقد ذكر البخاري هذه الجملة في " صحيحه " عدة مرات، معرضًا بأهل الرأي، رَادًّا عليهم، مُبَيِّنًا تناقضهم. ولا شك في أن موضوعات الخلاف بينه وبين أهل الرأي ليست مقصورة على المسائل التي رد فيها على قول (بَعْضِ النَّاسِ)، بل توجد مسائل أخرى، لم يرض البخاري عن مسلك أهل الرأي إزاءها، وأثبت في " صحيحه " مذهبه فيها، وإن لم يعن ببيان رأي مخالفيه، بل إنه قد أفرد بعضًا من هذه المسائل بمؤلفات خاصة، مثل رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه، في كتابه " قرة العينين برفع اليدين "، ومثل القراءة خلف الإمام، في كتابه " خير الكلام في القراءة خلف الإمام ".
فمن هذه المسائل التي قرر البخاري فيها رأيه، ورد ضمنًا على أهل الرأي دون أن يشير إليهم:
1 -
حقيقة الخمر ومسماها: وقد علمنا أن أبا حنيفة يقصر الخمر على عصير العنب، حيث يحرم قليله وكثيره. أما العصير من غيره إذا تخمر، فإنه لا يحرم القليل الذي لا يسكر منه، ويحرم كثيره المسكر.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*)«وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ» أطلق الإمام البخاري - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في " الجامع الصحيح " هذه العبارة في خمسة وعشرين موضعًا، ذاكرًا بها مذاهب بعض الفقهاء، وقد اشتهر أن المراد بذلك أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وهذا ما حدا بطائفة من علماء الحنفية أن يصنفوا في بيان هذه المسألة أن ليس المراد بها في جميع تلك المواضع الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وأن التعقب ليس غاية البخاري في جميعها. ومن أشهر التآليف في هذا الموضوع " كشف الالتباس عما أورده الإمام البخاري على بعض الناس "، للعلامة الفقيه المحدث الشيخ عبد الغني الغُنيمي الميداني الدمشقي (ت سنة 1298 هـ)، ومعه " دراسة متقنة للمسائل الفقهية الخمس والعشرين التي انتقدها البخاري في صحيحه بقوله: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ " للدكتور عبد المجيد محمود عبد المجيد، اعتنى به الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1993 م، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.
وقد ترجم البخاري عدة أبواب، مفندًا فيها هذا الرأي، مثبتًا أن الخمر اسم لكل مسكر. لا فرق بين عصير العنب وغيره، ولا بين القليل والكثير، فيقول:(بَابٌ: الخَمْرُ مِنَ العِنَبِ)، (بَابُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَهِيَ مِنَ البُسْرِ وَالتَّمْرِ)، (بَابٌ: الخَمْرُ مِنَ العَسَلِ، وَهُوَ البِتْعُ)، (بَابُ مَا جَاءَ فِي أَنَّ الخَمْرَ مَا خَامَرَ العَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ)، (بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ)(1).
2 -
شرط المصر في الجمعة: وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَا تُقَامُ الجُمُعَةُ عِنْدَهُ فِي القُرَى الصَّغِيرَةِ، وَقَدْ رَدَّ البُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ فِي تَرْجَمَتِهِ (بَابُ الجُمُعَةِ فِي القُرَى وَالمُدُنِ)(2).
3 -
نصاب الزكاة في الزروع والثمار: فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ العُشْرِ أَوْ نِصْفِهِ، فِي قَلِيلِ مَا تُخْرِجُهُ الأَرْضُ وَكَثِيرُهُ، أَخْذًا بِعُمُومِ الحَدِيثِ:«فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ» . وقد روى البخاري هذا الحديث، ولكنه روى عقبه حديث:«لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» ، ثم قال:«هَذَا تَفْسِيرُ الأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الأَوَّلِ، [يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، " وَفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ "]، وَبَيَّنَ فِي هَذَا، وَوَقَّتَ، وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَالمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى المُبْهَمِ، إِذَا رَوَاهُ أَهْلُ الثَّبَتِ» .
وقد قال السندي في تعليقه على هذا الحديث: «وَمُرَادُهُ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، حَيْثُ أَخَذَ بِإِطْلَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - وَهُوَ حَدِيثُ " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ
…
"، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مُبْهَمٌ، يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، - وَهُوَ " لَيْسَ فِيمَا أَقَلَّ
…
" [فَالوَاجِبُ الأَخْذُ بِهِ لَا بِالمُبْهَمِ فَافْهَمْ]» (3).
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 2/ 321، 323، وانظر " الهداية ": 4/ 80، 85 مطبعة صبيح بالأزهر؛ و" فتح القدير: 4/ 181، 182.
(2)
" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 105.
(3)
" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 170. وَالعَثَرِيُّ: قِيلَ هُوَ الذِي تَسْقِيهِ السَّمَاءُ، وَرَجَّحَ ابْنُ العَرَبِيُّ أَنَّهُ شِبْهُ نَهْرٍ يَحْفِرُ الأَرْضَ (" الترمذي ": 3/ 132).
4 -
الطَّلَاقُ قَبْلَ النِّكَاحِ: ذكرنا هذه المسألة في الفصل السابق، وذكرنا أن الرجل إذا علق الطلاق على النكاح، يلزمه الطلاق إذا تزوج. وقد ترجم البخاري لهذا بقوله: (بَابُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ» وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ
…
) ثم ذكر رواية ذلك عن اثنين وعشرين تابعيًا (1).
5 -
طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالمُكْرَهِ وَالغَاضِبِ: وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى وُقُوعِ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، ورد عليه البخاري في ترجمة طويلة، تقدم ذكرها في فصل (الاتجاه العقلي)، وهي (بَابُ الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ وَالكُرْهِ، وَالسَّكْرَانِ
…
) (2).
وهناك العديد من الأمثلة غير ما تقدم، يمكن تتبعه في مسائل الخلاف، وقد ذكرنا بعضها في الفصل السابق، فيما أشرنا فيه إلى البخاري كمرجع لبعض المسائل المختلف فيها.
لكن البخاري في هذه المواضع التي يبدي فيها رأيه، لا يعني بالضرورة أنه يقصد الرد على أهل الرأي، وإنما فيه نسبة ذلك إليه اجتهاد وظن راجح من الباحثين، لا نستطيع أن ننسبه صراحة إليه.
أما الذي يمكن نسبته إليه، فهو ما صرح فيه بالرد على مخالفيه، الذين أطلق عليهم (بَعْضَ النَّاسِ) في " صحيحه "، أو ناقشهم في مؤلفات خاصة. فهذا هو الذي يعنينا بالقصد الأول، حيث يعطينا صورة واضحة عن أسلوب البخاري في مناقشته، وعن تصوره لمخالفات أهل الرأي التي لم يسعه السكوت عليها، لمخالفتها مقتضى الأدلة في نظره.
(1)" البخاري ": 3/ 271، 272.
(2)
" البخاري ": 3/ 272.