الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَاحْتَالَ فَجَاءَ بِشَاهِدَيْ زُورٍ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَدْرَكَتْ، فَرَضِيَتِ اليَتِيمَةُ، فَقَبِلَ القَاضِي شَهَادَةَ الزُّورِ، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ، حَلَّ لَهُ الوَطْءُ».
هذه ثلاثة اعتراضات اعترض بها البخاري على الأحناف: أولها تزويج البكر بغير رضاها، والثاني في تزويج الثيب بغير رضاها، والثالث في تزويج الصغيرة.
ويجمع الفروع الثلاثة الرد على أبي حنيفة في قوله: إن حكم الحاكم في هذه المسائل ينفذ ظاهرًا وباطنًا، ويحلل ويحرم. وقد أورد البخاري هذه الاعتراضات مكررة تفصل بينها الأحاديث، للمبالغة في التشنيع على هذا القول الذي يبيح للزوج أن يقدم على ما حرمه الله.
وقد سبق أن ذكرنا هذه المسألة فيما أخذه ابن أبي شيبة على أبي حنيفة وَبَيَّنَّا هناك أن أبا حنيفة يتفق مع الجمهور في أن حكم الحاكم في الأموال لا يفيد الحل أو الحرمة في الواقع، إذا كان حكمه مبنيًا على شهادة شهود ظاهرهم العدالة وباطنهم الكذب. ولكنه يخالف الجمهور فيما يتعلق بالزواج والطلاق، حيث يجعل حكم الحاكم فيهما نافذًا ظاهرًا وباطنًا، وإن كان بشهادة شهود عدول في الظاهر كذبة في الواقع، مستدلاً بأن الحاكم يحكم بالتفرقة بين المتلاعنين، وينفذ حكمه ظاهرًا وباطنًا، مع العلم بأن أحدهم كاذب لا محالة. وقد رجعنا هذا الاختلاف فيما سبق إلى الاختلاف حول تأثير الجانب الخلقي الديني في الأمور التشريعية (1).
فِي الغَصْبِ:
قال البخاري: (بَابُ إِذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ، فَقُضِيَ بِقِيمَةِ الجَارِيَةِ المَيِّتَةِ، ثُمَّ وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فَهِيَ لَهُ، وَيَرُدُّ القِيمَةَ وَلَا تَكُونُ القِيمَةُ ثَمَنًا).
(1) انظر ما سبق في ص 422؛ و" فتح الباري ": 12/ 301، [302]، المطبعة الأميرية ببولاق، سنة 1301 هـ.
ثم روى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مرفوعًا: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» ، كما روى حديث:«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [إِلَيَّ]، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» .
خالف الأحناف الجمهور في هذه المسألة، محتجين بأن صاحب العين قد ملك لبدل بكماله - وهو القيمة - والمبدل في ملك شخص واحد.
أما الجمهور فذهب إلى وجوب رد العين المغصوبة إذا ظهرت، لأن الغصب عدوان محض، فلا يصلح سببًا للملك، وقد حرم الله مال المسلم إلا عن طيب نفسه، ولأن القيمة إنما وجبت بناء على صدق دعوى الغاصب أن الجارية ماتت، فلما تبين أنها لم تمت وجب أن تكون باقية على ملك المغصوب منه، لأنه لم يجر بين المالك والغاصب عقد صحيح يوجب الملك، فوجب أن ترد إلى صاحبها (1).
ومن الواضح أن الأحناف لم يقصدوا برأيهم هذا أن يكون حيلة لأخذ أموال الناس بالباطل، ولم ينتقدهم البخاري لذلك، ولكنه انتقدهم من أجل أن هذا القول ذريعة إلى أخذ أموال الناس بغير حق، ومركب ذلول يستعين به المختالون ممن خربت ذمتهم، وغفلت ضمائرهم. فالعدول عن هذا الرأي أولى بالمسلم، وسد هذا الباب فيه سلامة للمجتمع وصيانة له من عبث العابثين.
(1) انظر " الهداية ": 4/ 14؛ و" فتح الباري ": 12/ 299.