الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويلاحظ أن الموضوعات التي عني بها البخاري بالرد على أهل الرأي أقل كثيرًا من المسائل التي انتقدها ابن أبي شيبة على أبي حنيفة، لأن كثيرًا من هذه المسائل التي انتقدها شيخه، كان أبو حنيفة فيها مستندًا إلى حجج قوية، ووافقه على رأيه بعض الأئمة ومنهم البخاري. فكان من الضروري أن يمحص البخاري هذه المسائل، ثم يركز نقده على ما هو جدير بالنقد منها.
كما يلاحظ أيضًا أن البخاري قد افترق عن شيخه، في أنه قد اعتنى ببيان وجهة نظر أهل الرأي، ولم يضن عليهم بذكر حجتهم أو موضع شبهتهم، في حدود ما تسمح به ظروف التأليف، لأن الغرض من " صحيحه " لم يكن عرض الآراء الفقهية ومناقشتها، بل هو جمع لما صح من الأحاديث، واستنباط للأحكام الفقهية منه. أما المسألتان اللتان أفردهما بالتأليف، فقد بسط فيهما القول، وتوسع في عرض الآراء ومناقشة الحجج.
وسوف يعرض هذا الفصل هاتين المسألتين، ثم يتتبع المسائل التي ناقشها البخاري مع أهل الرأي، مشيرًا إليهم بقوله:«وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ» مما جاء في " صحيحه ".
رَفْعُ اليَدَيْنِ عِنْدَ الرَّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ:
وقد سمي كتاب البخاري الذي عالج هذه المسألة: " قرة العينين برفع اليدين في الصلاة "، وهو مطبوع على هامش كتاب " خير الكلام في القراءة خلف الإمام "، بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1320 هـ.
ويتضح من عنواني الكتابين أنهما ليسا من صنع البخاري، لما فيهما من السجع المتكلف، كما أنهما ليسا كبيرين، وإنما هما جزءان صغيران.
وقد بدأ البخاري جزءه في رفع اليدين، بمقدمة أنكر فيها على مخالفه في هذه المسألة، مهاجمًا إياه بأسلوب حاد، ومتهمًا إياه بالبدعة، لمخالفته الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أمر اللهُ باتباعه وطاعته في آيات كثيرة:
فقد جاء في أول كتابه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
…
[أَخْبَرَنَا] الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبُخَارِيُّ قَالَ:
الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ رَفْعَ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، [وَأَبْهَمَ] عَلَى العَجَمِ فِي ذَلِكَ، تَكَلُّفًا لِمَا لَا يَعْنِيهِ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [مِنْ] فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ [وَمِنْ فِعْلِ أَصْحَابِهِ وَرِوَايَتِهِمْ] كَذَلِكَ، ثُمَّ فِعْلِ التَّابِعِينَ وَاقْتِدَاءِ السَّلَفِ بِهِمْ فِي صِحَّةِ الْأَخْبَارِ بَعْضِ الثِّقَةِ عَنِ الثِّقَةِ، مِنَ الْخَلَفِ العُدُولِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْجَزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَى ضَغِينَةِ صَدْرِهِ، وَحَرَجَةِ قَلْبِهِ، نِفَارًا عَنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [مُسْتَحِقًّا] لِمَا يَحْمِلُهُ [اسْتِكْبَارًا] وَعَدَاوَةً لِأَهْلِهَا، [لِشَوْبِ] البِدْعَةِ لَحْمَهُ وَعِظَامَهُ وَمُخَّهُ، [وَأُنْسَتِهِ بِاحْتِفَالِ] العَجَمِ حَوْلَهُ اغْتِرَارًا» (1)(*).
ونحن نستبعد أن يكون الكلام السابق موجهًا إلى أبي حنيفة أو واحد من أصحابه، ولعله كان يقصد به أحد معاصريه من المتمذهبين بالمذهب الحنفي وحيث ترفع المعاصرة، درجة حرارة المناقشة، وترهف من حدتها.
بعد هذا الهجوم الخاطف أخذ البخاري في سرد الآيات التي افترضت على المسلمين طاعة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله سبحانه:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. ثم شرع البخاري في مناقشة موضوعية لمسألة رفع اليدين في الصلاة.
(1)" قرة العينين ": ص 2
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر " قرة العينين برفع اليدين في الصلاة "، لأبي عبد الله البخاري (ت 256 هـ)، تحقيق أحمد الشريف، ص 5، الطبعة الأولى: 1404 هـ - 1983 م، نشر دار الأرقم للنشر والتوزيع - الكويت.
والاجتهاد في هذه المسألة محصور في نطاق الترجيح بين الآثار المختلفة فيه، لأنها رواية فعل عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، فبعض العلماء رجح ثبوت الفعل - أي رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه - وبعضهم يرجح نفيه، والمعركة حول ذلك تدور: كل من الفريقين يقوي الأثر الذي يدل له، ويضعف الأثر الذي يناقضه أو يؤوله.
وسوف يتبين لنا أن الاعتزاز بالشيوخ والثقة بما جاء عن طريقهم، كان من العوامل الهامة في الترجيح، مما جعل أبا حنيفة وسفيان الثوري وأهل الكوفة يرجحون جانب الترك في هذه المسألة، أَخْذًا بما روي عن ابن مسعود وإبراهيم النخعي فيها (1).
وفي مناقشة البخاري هذه المسألة، أخذ يسرد الروايات الدالة على رفع اليدين عند الركوع والرفع منه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال: «وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ [عِنْدَ الرُّكُوعِ مِنْهُمْ] أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ ، وَأَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ
…
». وبعد أن عدهم بالاسم نقل عن بعض العلماء الإجماع على ذلك حيث قال: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ. فَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[دُونَ أَحَدٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم] أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا وَصَفْنَا ، وَكَذَلِكَ [رَوَيْنَاهُ] عَنْ عِدَّةٍ مِنْ عُلَمَاءِ مَكَّةَ ، وَأَهْلِ الحِجَازِ ، وَالعِرَاقِ ، وَالشَّامِ ، وَالبَصْرَةِ ، وَاليَمَنِ، وَعِدَّةٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ» ، ثم ذكر أن شيوخه: «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (*) ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ يُثْبِتُونَ
(1) انظر " الترمذي ": 2/ 58؛ و" قرة العينين ": ص 19.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) هو علي بن المديني، شيخ الإمام البخاري.
عَامَّةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَيَرَوْنَهَا حَقًّا ، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ». ثم روى أحاديث أخرى في رفع اليدين عن ابن عمر، وغيره من الصحابة الذين رووا ذلك ممن سبق ذكرهم في جملة السبع عشرة نفسًا.
ثم أخذ البخاري بعد ذلك يفند حجج خصومه، وهي تنحصر في أن علي بن أبي طالب، وابن عمر اللذين روى عنهما أحاديث رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه - قد روي عنهما ما يفيد عدم رفع اليدين إلا في تكبيرة الإحرام، وهذا إما دليل على نسخ الرفع عند الركوع أو دليل على ضعف الحديث فيه. وعن ابن مسعود والبراء بن عازب ما يفيد عدم الرفع، كما استدل بعضهم على عدم الرفع بحديث «مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟» ، واعتل بعضهم بأن ابن عمر كان صغيرًا.
أما الرواية الثانية عَنْ عَلِيٍّ فِي «أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ ثُمَّ لَمْ يَعُدْ بَعْدُ» ، فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ «أَنَّ الثَّوْرِيَّ قَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ عَلِيٍّ» ، كما احتج أيضًا في ردها بأن الأخذ بالمثبت أولى من الأخذ بالنافي، فإذا روى رجلان عن محدث وقال أحدهما: رأيته يفعل، وقال الآخر: لم أره، فالذي قال: رأيته يفعل هو شاهد، والذي قال: لم يفعل فليس هو بشاهد، لأنه لم يحفظ الفعل، ثم ذكر مثلاً لذلك أَنَّ بِلَالاً قَالَ:«" رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الكَعْبَةِ " ، وَقَالَ الفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ: " لَمْ يُصَلِّ " ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ بِلَالٍ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يُصَلِّ حِينَ لَمْ يَحْفَظْ» (ص 5).
«أَمَّا مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَّا فِي أَوَّلِ التَّكْبِيرِ، فَذَلِكَ سَهْوٌ مِنْهُ» ، ثم «رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ تَضْعِيفَ ذَلِكَ». ثم قال: «وَلَوْ تَحَقَّقَ حَدِيثُ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ لَكَانَ حَدِيثُ طَاوُوسٍ ،
وَسَالِمٍ ، وَنَافِعٍ ، وَمُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ رَأَوْهُ - أَوْلَى لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُنْ يُخَالِفْ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَالمَدِينَةِ ، وَاليَمَنِ ، وَالعِرَاقِ [أَنَّهُ كَانَ] يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى لَقَدْ حَدَّثَنِي مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الحَسَنِ قَالَ:«كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا أَيْدِيهِمُ المَرَاوِحُ يَرْفُعُونَهَا إِذَا رَكَعُوا ، وَإِذَا رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ» .
ثم روى مثل ذلك عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، «فَلَمْ يَسْتَثْنِ الحَسَنُ ، وَحُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ أَحَدٍ» (7 - 11).
أما ما يروى عن ابن مسعود في عدم الرفع، فقد ذكر البخاري بقوله: وقال: «وَيُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ (*) ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَلْقَمَةَ [قَالَ]: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " أَلَا أُصَلِّي بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟. فَصَلَّى، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلَّا مَرَّةً» ، وقد رد البخاري هذه الرواية بما رواه عن أحمد بن حنبل، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ قَالَ:«نَظَرْتُ فِي كِتَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ لَيْسَ فِيهِ: " ثُمَّ لَمْ يَعُدْ "» ، فهذا أصح، لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم، لأن الرجل يحدث بشيء، ثم يرجع إلى الكتاب، فيكون كما في الكتاب.
ثُمَّ رَوَى البُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَفْعَلُ التَّطْبِيقَ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ يُطَبِّقَ يَدَيْهِ وَيَجْعَلَهَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ نُسِخَ. (ص 11، 12).
أما ما يروى عن البراء بن عازب، فقد ضعف البخاري إسناده، فقال:«حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ هَهُنَا عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنِ البَرَاءِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ ". قَالَ سُفْيَانُ: " لَمَّا كَبُرَ الشَّيْخُ - يعني يزيد - لَقَّنُوهُ " ثُمَّ لَمْ يَعُدْ ". [فَقَالَ: ثُمَّ لَمْ يَعُدْ]» .
قَالَ البُخَارِيُّ: «وَكَذَلِكَ رَوَى الحُفَّاظُ مَنْ سَمِعَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ قَدِيمًا مِنْهُمْ
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) سفيان: هو الثوري، انظر " نصب الراية "، للزيلعي (ت 762 هـ)، تصحيح الشيخ محمد عوامة، 1/ 394، حديث رقم 1705، الطبعة الأولى: 1418 هـ - 1997 م، نشر دار القبلة للثقافة الإسلامية - جدة. مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت - لبنان. المكتبة المكية.
الثَّوْرِيُّ ، وَشُعْبَةُ ، وَزُهَيْرٌ لَيْسَ فِيهِ:" ثُمَّ لَمْ يَعُدْ "». ثم ذكر أن هذا الحديث قد روي من طريق آخر عن غير [يزيد].
[قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَإِنَّمَا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى هَذَا مِنْ حِفْظِهِ فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مِنْ كِتَابِهِ فَإِنَّمَا حَدَّثَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى] عَنْ يَزِيدَ فَرَجَعَ الحَدِيثُ إِلَى تَلْقِينِ يَزِيدَ» (ص 12، 13).
أما حديث النبي عن رفع الأيدي، وتشبيهها بأذناب الخيل، فقد أنكر البخاري على من يستدل به في عدم رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، لأن الحديث قد جاء في موضوع آخر، وفي ذلك يقول: «وَأَمَّا احْتِجَاجُ بَعْضِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِحَدِيثِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَنَحْنُ رَافِعِي أَيْدِينَا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ:" مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمُسٍ؟، اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي التَّشَهُّدِ لَا فِي القِيَامِ "، كَانَ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي التَّشَهُّدِ. وَلَا يَحْتَجُّ [بِمِثْلِ هَذَا] مَنْ لَهُ حَظٌّ مِنَ العِلْمِ، هَذَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَكَانَ رَفْعُ الْأَيْدِي فِي أَوَّلِ التَّكْبِيرَةِ ، وَأَيْضًا تَكْبِيرَاتُ صَلَاةِ العِيدِ مَنْهِيًّا عَنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ رَفْعًا دُونَ رَفْعٍ
…
» (ص 13).
قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَكَانَ ابْنُ المُبَارَكِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ ، وَهُوَ [أَكْثَرُ] أَهْلِ زَمَانِهِ عِلْمًا فِيمَا نَعْرَفُ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنَ السَّلَفِ عِلْمٌ فَاقْتَدَى بِابْنِ المُبَارَكِ فِيمَا اتَّبَعَ الرَّسُولَ ، وَأَصْحَابَهُ ، وَالتَّابِعِينَ لَكَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَنْ
[يُثْبِتَهُ] بِقَوْلِ مَنْ لَا يَعْلَمُ» (ص 14).
ونلاحظ هنا أن البخاري يتهم خصومه بعدم معرفة الآثار، وسوف يأتي اتهامه لهم بالتقليد، وأنهم يختارون من السنن ما يوافق مذهبهم، وكان يجب عليهم أن يخضعوا أنفسهم ومذهبهم للسنن.
وقد طعن من لا يرفع اليدين في حديث الرفع، فذكر أن ابن عمر كان صغيرًا لا يدرك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يدرك غيره، كما طعنوا في وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أحد رواة حديث رفع اليدين.
وقد رد البخاري على ذلك، فقال:«وَالعَجَبُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ صَغِيرًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَلَقَدْ شَهِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عُمَرَ بِالصَّلَاحِ - ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ حَفْصَةَ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَجُلٌ صَالِحٌ "» ، ثم روى البخاري أن ابن عمر قال:«إِنِّي لَأَذْكُرُ عُمَرَ حِينَ أَسْلَمَ» .
وبعد أن رد على من طعن على وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، نعى على مخالفيه تقليدهم وإخضاعهم السنن لهذا التقليد، فقال: إنه لو ثبت رفع اليدين عن الصحابة الذي يستدل بهم المخالفون على عدم الرفع، كابن مسعود، والبراء، وجابر - لم يعدم المخالفون علة يعللون بها ما ورد عنهم، ما دام هذا المروي مخالفًا لرأي رؤسائهم، ولقالوا:«أَنَّ رُؤُسَاءَنَا لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذَا ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَأْخُوذٍ» .
«وَلَقَدْ قَالَ وَكِيعٌ: " مَنْ طَلَبَ الحَدِيثَ كَمَا جَاءَ فَهُوَ صَاحِبُ سُنَّةٍ ، وَمَنْ طَلَبَ الحَدِيثَ لِيُقَوِّيَ هَوَاهُ فَهُوَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ ".
يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي أَنْ [يُلْقِيَ] رَأْيَهُ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ ثَبَتَ الحَدِيثُ ، وَلَا [يَعْتَلُّ] بِعِلَلٍ لَا تَصِحُّ لِيُقَوِّيَ هَوَاهُ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لَمَّا جِئْتُ
بِهِ "». وَقَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: «أَهْلُ العِلْمِ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ أَعْلَمَ ، وَهَؤُلَاءِ الْآخِرُ فَالْآخِرُ عِنْدَهُمْ أَعْلَمُ» ، وَلَقَدْ قَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: «كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَنْبِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ فَرَفَعْتُ يَدَيَّ، فَقَالَ: "[مَا] خَشِيتَ أَنْ تَطِيرَ؟ " فَقُلْتُ: " إِنْ لَمْ أَطِرْ فِي الْأُولَى لَمْ أَطِرْ فِي الثَّانِيَةِ " قَالَ وَكِيعٌ: " رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ المُبَارَكِ كَانَ حَاضِرَ الجَوَابِ "» (ص 15 - 17).
وقد ذكر مخالفوه أن إبراهيم النخعي قال في حديث رفع اليدين، الذِي رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ:«لَعَلَّهُ كَانَ فَعَلَهُ مَرَّةً» ، ورد البخاري عليه، بأن هذا ظن من إبراهيم، ومعاينة وائل أكثر من حسبان غيره، ثم روى ما يفيد أن وائلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير مرة، وأن الرفع كان من عادتهم (ص 19)(1).
وقد أثبتنا في بداية هذه المسألة، ملاحظتنا عن حدة البخاري في مناقشته، واتهامه خصومه بالبدعة، واستبعدنا أن يكون المقصود بذلك هو أبا حنيفة، لأنه لم يكن وحده في القول بعدم رفع اليدين، وإنما كان معه بعض من يعتز بهم المحدثون، ويقدرونهم قدرهم في معرفة الآثار كالثوري ووكيع.
وقد جاء فيما تقدم أن البخاري، يرمي خصومه بالتقليد للرؤساء، وهذا دليل على المعاصرة، وقد جاء في كلام البخاري بعد ذلك ما يفسر حدته، بل ما يفسر اختصاص هذه المسألة بتأليف مفرد، وهو أن بعض
(1) ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُوَن حَدِيثُ وَائِلٍ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْدَمُ صُحْبَةً، وَأَفْهَمُ لِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَائِلٍ، وَقَدْ «كَانَ عليه السلام يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ المُهَاجِرُونَ لِيَحْفَظُوا عَنْهُ» ، كَمَا «كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ أُولُو الأَحْلَامِ والنُّهَى» . رواهما الطحاوي بإسناده، (وانظر " معاني الآثار ": 2/ 131، 134).
الخصوم كان يزعم أن رفع اليدين عند الركوع بدعة.
قَالَ البُخَارِيُّ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَفْعَ الْأَيْدِي بِدْعَةٌ، فَقَدْ طَعَنَ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَالسَّلَفِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَهْلِ الحِجَازِ، وَأَهْلِ المَدِينَةِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَعِدَّةٍ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَأَهْلِ اليَمَنِ، وَعُلَمَاءِ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْهُمُ ابْنُ المُبَارَكِ حَتَّى شُيُوخِنَا
…
» (ص 19).
«وَكَانَ الثَّوْرِيُّ ، وَوَكِيعٌ ، وَبَعْضُ الكُوفِيِّينَ لَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ ، وَقَدْ رَوَوْا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ، وَلَمْ [يُعَنِّفُوا] عَلَى مَنْ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَلَوْلَا أَنَّهَا حَقٌّ مَا رَوَوْا تِلْكَ الْأَحَادِيثَ
…
» (ص 19).
وقد استدل المخالفون بحديث: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إِلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، وَاسْتِقْبَالِ [الكَعْبَةِ] ، وَعَلَى الصَّفَا وَالمَرْوَةِ ، وَبِعَرَفَاتٍ ، وَبِجَمْعٍ، وَفِي المَقَامَيْنِ، وَعِنْدَ الجَمْرَتَيْنِ» .
وَقَدْ أَعَلَّ البُخَارِيُّ هَذَا الحَدِيثَ. وعلى فرض صحته، فليس المراد هنا حقيقة الحصر وليس بينه وبين رفع اليدين عند الركوع تناقض، بل الواجب الأخذ بكل الأحاديث، «وقد قَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِرَفْعِ الأَيْدِي فِي تَكْبِيرَاتِ الجَنَازَةِ وَلَيْسَتْ ضِمْنَ السَّبْعِ المُتَقَدِّمَةِ» (ص 21، 23).
ثُمَّ أَنْهَى البُخَارِيُّ كَلَامَهُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ بِتَأْكِيدِ الرَّفْعِ وَاخْتِيَارِهِ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ، أَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي عَدَمِ الرَّفْعِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ خِلَافَ ذَلِكَ، حَيْثُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَهَذَا أَحْفَظُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، مَعَ مَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ رِوَايَاتِ غَيْرِ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ (ص 23، 25).