الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأمثلة على هذه الأنواع كثيرة جدًّا؛ كما ستراها في أماكنها على ما سبقت الإشارة إليه، لكن مما ينبغي التنبيه عليه بهذه المناسبة: أنها على نوعين:
أحدهما: منكر أو باطل من أصله، كهذا المثال، ومحل هذا النوع في "الضعيف".
والآخر: يكون أصله صحيحًا، لكن وقع فيه شذوذ من ثقة، أو نكارة من ضعيف، كالأمثلة التي قبل هذا، فمحله - على الغالب - في "الصحيح"؛ مع التنبيه على موضع الشذوذ والنكارة، وهذا مما لم يُعْنَ ابن حبان بالتنبيه عليه، وقلده في ذلك المعلقون على "الموارد"، وبخاصة الأخ الداراني، حتى ليكاد الواقف على تخريجاته يجزم بأنه لا يعرف هذا النوع من علوم الحديث:(الشاذ)، و (المنكر)، كما سترى ذلك يقينًا - إن شاء اللَّه تعالى - عند التعليق على الكثير منها!
أخي القارئ! إذا تيقنت مما سبق من البيان والتحقيق إخلال ابن حبان رحمه الله بالشرط الأول والثاني من شروطه الخمسة، وعدم وفائه بهما؛ فلستَ - والحالةُ هذه - بحاجة إلى تنبيهك إلى أنه قد أخل بالشرط الثالث والرابع: العقل بما يحدث، والعلم بالمعنى من باب أولى؛ لأنهما شرطان نظريان، لم يقل بهما أحد من أهل العلم؛ بل القول بهما مخالف للكتاب والسنة كما سبق بيانه (ص 26 - 29)؛ بل جرى عمل المحدثين جميعًا على خلافه، وأول مخالف له إنما هو قائله!!
إخلاله بالشرط الخامس:
ولقد أخل ابن حبان بالشرط الخامس أيضًا، وهو قوله:
"
…
المتعرِّي خبره عن التدليس".
وهو شرط متفق عليه بين علماء الحديث دون خلاف أعلمه؛ على تفصيل لهم معروف في علم المصطلح، وأنواع ذكروها فيه، ومع ذلك؛ فقد أخرج ابن حبان في "صحيحه" للكثير من المدلسين عنده ممّن وصفهم في "ثقاته" بالتدليس؛ فضلًا عن غيرهم من المدلسين عند غيره؛ كأبي الزبير المكي مثلًا، فقد أكثر عنه:
1 -
حبيب بن أبي ثابت، ومن أحاديثه الآتي برقم (655 - الضعيف)، وأعله الداراني (2/ 395) بعنعنته!
2 -
ومنهم الحسن البصري، وقد أكثر ابن حبان من التخريج له عن بعض التابعين والصحابة، وعامتها معنعنة، ولكن غالبها عن التابعين، وقد مشاها العلماء، وبعضها عن بعض الصحابة، منهم من سمع منه، ومنهم من لم يسمع منه، والكثير منها صحيح لغيره، والأخ الداراني - مع تعصبه لابن حبان، وتقليده المعروف إياه -؛ لم يسعه إلَّا أن يصفه بالتدليس، وأن يرد كثيرًا من أحاديثه، ويضعِّفها بالعنعنة؛ إلَّا أنه كان في ذلك مضطربًا أشد الاضطراب، فتارة يضعف، وتارة يصحح؛ دون أن يذكر سببًا وجيهًا للتصحيح، مما يؤكد لي أنه لا ينطلق في ذلك من ثوابت وقواعد مستقرة في ذاكرته؛ حتى أصبحت جزءًا من حياته العلمية، كلا، وإنما هو يرتجل ارتجالًا كيفما اتفق، أو وافق الهوى أو المذهب!
وقد شايعه في بعض ذلك: الشيخ شعيب - أو المعلق على "الإحسان"، والمذيِّل على أحاديث "موارده"! - فانظر على سبيل المثال الأحاديث الآتية في "ضعيف الموارد"(335، 448، 816، 915)، وهذا الأخير منها هو من حديث الحسن، عن أبي بكرة، ومع ذلك قالا فيه:"إسناده صحيح"! وليس ذلك لأن الحسن صرح بالتحديث - ولو في مصدر آخر، أو لشواهد تقويه، كما سيأتي بيانه في التعليق عليه -؛ وإنما على قول شعيب (8/ 224)؛ لأن البخاري روى له
عدة أحاديث في "صحيحه" ليس فيها التصريح بالسماع! وعلى قول الداراني (3/ 221)؛ لأن البخاري أخرج له بالعنعنة حديثًا في الغسل (291)، ومسلم في الحيض (348)، وفي الإمارة (1854)، وأنت إذا رجعت إلى هذه الأحاديث الثلاثة وجدتها من رواية الحسن عن بعض التابعين، عن أبي هريرة، وأم سلمة!
فهذا غير ما نحن فيه؛ لأن روايته عن التابعين غير روايته عن الصحابة؛ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ومع ذلك؛ فقد رأيت الداراني قد اختلف موقفه هذا تجاه حديث آخر، هو أيضًا من حديث الحسن عن أبي بكرة، سيأتي - إن شاء اللَّه - في "الصحيح" برقم (372) مرموزًا له بِـ "صحيح لغيره"، فقد أعله بقوله (2/ 67):
"الحسن موصوف بالتدليس
…
"!
ثم نقل عن بعضهم أنه لم يسمع من أبي بكرة، وهذا النفي باطل؛ لثبوت تصريحه بسماعه منه في "صحيح البخاري" (2704) لحديث: "إن ابني هذا سيد
…
"، وكذا صرح بالسماع في "مسند الحميدي" أيضًا (2/ 811 - تحقيق الداراني) نفسه، ولذلك أثبته - أعني: التصريح - الداراني في بعض تعليقاته الأخرى على "الموارد"؛ كالحديثين (1530، 2232)، وهذا سيأتي - إن شاء اللَّه - في "صحيح الموارد".
وأما الذي قبله؛ ففي "الضعيف"؛ لنكارة في متنه، لا يتنبه لمثلها الداراني وأمثاله.
إذا علمت هذا؛ فلعل الأقرب أن لا أقول: إنه تجاهل هذه الحقائق، وإنما أقول: إنه نسيها! لأن الرجل مثل (القمع) لا يحفظ الأحاديث النبوية، ولا القواعد العلمية، وما يتعلق بها من التراجم وغيرها، فهو لا يستحضر منها ما يلزمه منها؛ لحداثة عهده بها، فما يبرمه اليوم ينقضه غدًا، فهو حَطَّاب نقّال، ليس عنده
خلفية علمية تساعده على التحقيق والتدقيق، والثبات على الصواب، والأمثلة كثيرة جدًّا - كما سترى -، وهذا المثال يكفي الآن، وتأتي قريبًا نماذج أخرى.
وبهذه المناسبة أقول: إنه لا يعلم الفرق بين تدليس الشيوخ، وتدليس التسوية، فيحمل هذا على ذاك، فعل ذلك في غير ما حديث، مثل الآتي في "الضعيف" برقم (2090)، فانظر تعليقي عليه.
وأما الشيخ شعيب - أو المعلق على "الإحسان"! -؛ فكان موفقًا في هذا الحديث؛ فإنه أعله بالعنعنة، ولكنه قال (6/ 5):"حديث صحيح بطرقه وشواهده"!!
وبمناسبة ذكر أبي الزبير المعروف بالتدليس - كما سبقت الإشارة إليه آنفًا -؛ فإن من تهافت الداراني وجهله: أنه - مع تضعيفه لحديث حبيب بن أبي ثابت؛ لتدليسه، واضطرابه في تدليس الحسن البصري؛ مع أنه من رجال الشيخين -: أراه سادرًا في تصحيح أحاديث أبي الزبير المعنعنة عن جابر، بدعوى أن مسلمًا احتج بها! وهذا خلاف ما عليه العلماء من التفريق بين ما رواه الليث بن سعد، فهي صحيحة عنه، وبين ما رواه غير عنه، كما هو معروف عنه في كتب التراجم.
أليس كان الأولى - بناءً على دعواه المزعومة - أن يحتج بعنعنة حبيب هذا وأمثاله من الموصوفين بالتدليس؟! فعلى ماذا يدل هذا التهافت والتناقض؟! {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} !!
نعم؛ لقد عاد الرجل إلى الاحتجاج - أيضًا - ببعض رجال الشيخين المدلسين وعنعنتهم، مثل أبي إسحاق السبيعي - كما سترى في ترجمته الآتية بعد ترجمتين - إن شاء اللَّه تعالى -، وقد خالف في ذلك أيضًا العلماء الذين احتجوا بتحديثه دون تدليسه! ثم ما يدريني لعله لم يستقر على ذلك؛ فإن من
المستحيل ملاحقة أوهام من لا ينطلق فيما يكتب عن علم وثوابت، فلننتظر.
3 -
ومن المدلسين عند ابن حبان: عبد الجليل بن عطية، وقد روى له حديثًا واحدًا بالعنعنة، لكني وجدت تصريحه في بعض المصادر، فأوردته في "الصحيح" كما سيأتي برقم (2370).
وأمّا هاويه (الداراني)، والمتعصب لِـ "ثقاته"؛ فقد كان موقفه من هذا التدليس عجبًا، فقد رفضه رفضًا باتًّا بدعوى أنه لم يسبقه أحد! وهذا محض الجهل؛ لما هو مقرر عند أهل العلم والعقل: أن من علم حجة على من لم يعلم، وليت شعري أليس كان الأولى بهذا الرجل أن يقبل هذا من ابن حبان، وأن يرفض توثيقه للمجاهيل؛ لأنه خالف بذلك الحفاظ تأصيلًا وتفريعًا؛ بل وخالف نفسه بنفسه في شرطه الأول والثاني كما سبق تحقيقه؟! بلى؛ بل إنه الواجب، وصدق اللَّه:{إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
وأعجب من ذلك: أنه ذكر الرفض المتقدم في صاحب الترجمة التالية، ثم تناقض موقفه من حديثيه، فتوقف في أولهما، وقوى الآخر! هناك حكى التدليس فتوقف؛ وهنا حكاه أيضًا لكنه جوّد!!
4 -
ومنهم: عبيدة بن الأسود، روى له حديثين بالعنعنة، أحدهما يأتي في "الضعيف" برقم (277) لعنعنته، والآخر في "الصحيح"(963)؛ لأني وجدت تحديثه في مصدر من مصادر التخريج، كما بينت هناك.
وأما الأخ الداراني؛ فتناقض، ففي الأول توقف كما سبق، والظاهر أنه للتدليس الذي حكاه؛ خلافًا للشيخ شعيب - أو المعلق على "الإحسان"! -؛ فإنه تجاهل التدليس، وحسَّن الإسناد، وعليه حسَّن الحديث في "موارده".
وعكس هذا في الحديث الآخر؛ فإنه ضعفه، لا للتدليس - وقد حكاه هنا! -، وإنما لأسباب أخرى، وفاتته بعض الشواهد التي تقويه.
وشذ الداراني، فقال:
"إسناده جيد"! وهنا حكى عبارة ابن حبان في رميه إياه بالتدليس، ثم رفضه كما تقدم!
5 -
ومنهم: عمرو بن عبد اللَّه أبو إسحاق السبيعي، وقد أكثر من الرواية له، فبلغت أحاديثه عنده نحو خمسين ومائة (150)، غالبها عنه عن بعض التابعين، عن الصحابة، وسائرها عنهم مباشرة، أكثرها معنعنة، فهو في ذلك شبيه الحسن البصري المتقدم برقم (2)، وقد وجدت لبعضها من الشواهد ما يقويه، فأوردته في "الصحيح" مميزًا لهذا النوع عما كان صحيحًا لذاته بقولي:"صحيح لغيره"، وسأذكر له مثالًا له عما قريب - إن شاء اللَّه تعالى -.
ومن المهم هنا الإشارة إلى غرائب من أحاديثه المعنعنة، والتي لم أجد لها ما يشهد لها، فأوردتها في "الضعيف"، منها ذوات الأرقام التالية:(1781، 2227، 2255، 2410، 2458، 2582).
ومن الغرائب: أن المعلقين الأربعة تجاهلوا عنعنته وتدليسه فيها، فأجمعوا على تقويتها تحسينًا وتصحيحًا! اللهم إلَّا في بعضها لسبب غير التدليس، كما سترى ذلك في التعليق عليها في مواضعها المشار إليها - إن شاء اللَّه تعالى -.
فهل كان ذلك عن جهل منهم، أو نسيان، أوتعلل بما يدل على الحداثة مما سبقت الإشارة إليه؟! كل ذلك ممكن إلَّا الأول، فالذي رماه بالتدليس هو ابن حبان، وكتابه بين أيديهم، فضلًا عمن ترجمه وذكره في المدلسين، كما هو معلوم عند المشتغلين بهذا العلم الشريف، ولهذا فإني أستبعد أن يكون الأخ
الداراني رفض قول ابن حبان هذا كما رفضه في عبد الجليل بن عطية المتقدم قريبًا برقم (3)، لا سيما وقد رأيته قد أعل الحديث الآتي في "الصحيح" برقم (1953)، وهو من رواية أبي إسحاق، عن البراء بقوله (6/ 234):
"رجاله ثقات؛ إلَّا أنه منقطع
…
".
ثم نقل عن شعبة أنه قال:
"لم يسمع هذا الحديث أبو إسحاق عن البراء".
قلت: وهذا هو التدليس عند من يفهم.
وبهذه المناسبة أقول:
إن من أغرب ما رأيت لهذا الرجل من التخبيط والتخليط والتضليل - وهذا أقل ما يمكن أن يقال فيه -: ما فعله في حديث البراء الآتي في "الصحيح" برقم (1373)، وهو من رواية شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء، ذلك أنه قال في التعليق عليه (4/ 340):
"إسناده صحيح، شعبة قديم السماع من أبي إسحاق السبيعي".
قلت: السماع صحيح معروف لا شك فيه، وليته التزمه في كل أحاديث أبي إسحاق التي صححها؛ بل إنه له في ذلك تخليطًا آخر، وهو زعمه في غير ما موضع: أن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق قديم السماع من جده أبي إسحاق (1/ 446، 8/ 51)، وهذا من سوء فهمه؛ لوصف بعض الحفاظ إياه بأنه أحفظ لحديث جده من غيره، فهذا شيء آخر يتعلق به هو، والاختلاط يتعلق بجده، فهو حافظ لحديثه؛ ولو حدث به في الاختلاط، وقد ذكر أحمد أنه سمع منه بأخرة.
والمقصود هنا أن قوله: "إسناده صحيح" غير صحيح، وذلك لأنه أوقف نظره عند ظاهر رواية شعبة هذه، وهي معروفة الصحة عند العلماء؛ لأن شعبة
بالإضافة إلى أنه سمع من أبي إسحاق قبل الاختلاط؛ فإنَّ من دقته وتحفظه في الرواية عنه أنه لا يروي إلَّا ما صرح بالسماع، فلو لم يكن بين يدي الرجل إلَّا هذه الرواية لعذرناه؛ بل وكنا معه على الجادة، ولكن الرجل لم يتَقِ اللَّه - تعالى -، ولم يُؤَدِّ الأمانة العلمية، ذلك لأنه بعد أن خرَّج الحديث من رواية جماعة من المصنّفين - منهم أبو يعلى - قال:
"وهناك استوفينا تخريجه"!
فلما رجعت إلى حيث أشار إليه من "مسند أبي يعلى"(4/ 265 - 266)؛ وجدت الحجة التي تدمغه، ذلك لأن أبا يعلى رحمه الله أداءً منه للأمانة العلمية قد ساق الحديث من طريقين عن شعبة برقمين (1719، 1720)، الطريق الأولى هي ما أشير إليها آنفًا أنها في "الصحيح"، وهي التي عناها بجملة الاستيفاء المزعومة؛ فإنه لم يستوفِ ما هناك فضلًا عن أن يزيد عليها كما أوهم بها؛ بل إنه نقص منها جملة سماع أبي إسحاق! والخطب في هذا سهل، فقد علمت أنه لا فائدة منها هناك، اللهم إلَّا التضليل عن العلة الحقيقية التي كتمها الرجل، أَلا وهي الانقطاع بين أبي إسحاق والبراء، ولقد وددت - يشهد اللَّه؛ من باب (التمس لأخيك عذرًا) - أن أقول - كما قلت في غيره -: لعله غفل عن هذا؛ فإن الغفلة لا ينجو منها باحث، أو كاتب، وهي بالنسبة لرواية شعبة في "الصحيح" واردة، ولكنه مع الأسف لم يدع لذلك مجالًا في كل من تخريجيه، أما هنا في "الموارد"؛ فلأنه أحال إلى الطريق الأولى ذات الرقم (1719) الظاهرة الصحة، ولم يقرن معه الرقم الآخر (1720) المشير إلى الطريق الأخرى الكاشفة عن العلة! وبخاصة أنها جاءت في رأس الوجه الآخر من الصحيفة الذي قد لا يتنبه له البعض إلَّا بمنبه، كذكر الرقم الآخر!
لا بأس! لِنَقُل: إِنَّه غفل عنه! ولكن بماذا يمكن الإجابة عن فعلته في
تعليقه على "أبي يعلى"؛ فإنه بعد أن صحح إسناد الطريق الأولى؛ أعرض عن العلة الصريحة في الطريق الأخرى، وفيها ما نصه:
"قال شعبة: قلت: أسمعته من البراء؟ قال: لا"؟!!
لقد طاح احتمال غفلته عنه بتعليقه عليه بقوله (3/ 266):
"رجاله ثقات، وانظر الحديث السابق"!!
لقد كان من واجبه - والحالة هذه - أن يتدارك خطأ تصحيح إسناد الحديث السابق؛ بأن يرجع إليه، ويعله بالانقطاع الصريح فيه، كما فعل بحديث "الصحيح" الذي أشرت إليه آنفًا (ص 91)، ولكنه لم يفعل، وتجاهل النص كأن لم يكن، فصنيع من هذا؟!
ولقد شاركه في هذا التجاهل: الشيخ شعيب - مع الأسف -؛ فإنه قال في تعليقه على "الإحسان"(12/ 173):
"إسناده صحيح على شرط الشيخين، لكن جاء عند أبي يعلى بإثر الحديث: قال شعبة: قلت: أسمعته من البراء؟ قال: لا"!!
فجَمَعَ بين النقيضين! فكان ينبغي التصريح عقب التصحيح المذكور بمثل قوله: "لولا أنه منقطع
…
"؛ دفعًا لظاهرة التناقض! ولكني أخشى أن لا يكون التعبير المذكور من شعيب نفسه، وإنما هو من قبيل ما يقال:(له الاسم ولغيره الرسم)!
نعم؛ الحديث صحيح لغيره كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهي مخرجة في "الصحيحة" برقم (3496).
6 -
ومنهم: المغيرة بن مقسم الضبي، فقد أخرج له نحو عشرين حديثًا معنعنًا عنده كلها؛ سوى حديث واحد، صرح فيه بالسماع، وثانٍ قد توبع فيه،
وثالث رواه عن أبيه - وهو مجهول -.
والمقصود هنا: بيان أن له في كتابنا "الموارد" سبعة أحاديث كلها معنعنة، أحدها مما استدركته أنا على الهيثمي، وقد استطعت والحمد للَّه أن أنقذ من الضعف بالشواهد خمسة منها، فأوردتها في "الصحيح"، هذه أرقامها (1035، 1271، 1336، 1421، 2060).
وأما الآخران؛ فهما في "الضعيف" رقم أحدهما فيه (1523)، وحسَّنه بعضهم، وأما الآخر - وهو المستدرك -؛ فسيأتي في (5 - المواقيت/ 122 - باب) - بإذن اللَّه تعالى -.
وإن مما يحسن التنبيه عليه هنا: أن الأخ الداراني جرى في تخريجه لهذه الأحاديث - باستثناء المستدرك طبعًا المشار إليه آنفًا - على تجاهل تدليس المغيرة، سوى الحديث (1523)، فقد ضعفه هنا في "الموارد"، وأحال في تخريجه على "مسند أبي يعلى"(8/ 387 - 388)، وهناك أعله بقوله:
"ومغيرة كثير التدليس عن إبراهيم".
وخالف شعيبٌ، فحسَّنه هنا، وفي "الإحسان"(13/ 335)؛ زاعمًا أن المغيرة قد تابعه شباك الضبي! ومع أن هذا قد رُمي بالتدليس أيضًا؛ فقد تجاهل الشيخ شعيب الاضطراب في إسناده، وجهالة (هني بن نويرة) فوقه، كما كنت بينت ذلك مفصلًا في "الضعيفة"(1232)، وهذا قُلٌّ مِنْ جُلٍّ من تخبيطاتهم وتخليطاتهم التي لا يلتزمون فيها قواعد هذا العلم الشريف.
وهناك مدلسون آخرون كنت فرزت أسماءهم في آخر كتابي "تيسير الانتفاع" - يسر اللَّه لي نشرَه - بلغ عددهم نحو الثلاثين، وإنما ذكرت من تقدم ذكره منهم؛ لأنه أخرج لهم في "صحيحه" أحاديث كثيرة بالعنعنة، ووقع بعضها
في كتابنا "الموارد"، الأمر الذي أحوجني إلى نقدها، وتمييز ما صح منها بالمتابعات والشواهد، وما لم يصح بسبب العنعنة والتفرد.
وإن فيما أشرنا إليه من أحاديث هؤلاء المدلسين - ولو مما صح منه -: ما يكفي لبيان أن ابن حبان رحمه الله قد أخل أيضًا بالشرط الخامس الذي وضعه لرواة حديث "صحيحه" بقوله المتقدم: "المتعري خبره عن التدليس"! كما أخل بشروطه الأخرى على ما سبق بيانه، بما لا تراه في كتاب آخر - إن شاء اللَّه تعالى -.
وبذلك يزداد القراء علمًا بتساهله الذي رماه به أجلة الحفاظ والعارفين به، واستنكف عن الاعتراف به بعض من يدعي العلم، ويتهم الحفاظ بالجهل، ويتبينون أن تساهله لم يقف عند توثيق المجهولين في "ثقاته"، كما هو معلوم عند جمهور طلاب العلم؛ بل إنه تعداه إلى إخلاله بتحقيق شروطه الخمسة التي اشترطها لرواة "صحيحه"، خلافًا لمن صرح من المتأخرين أنه وفى بها؛ كالشيخ أحمد شاكر رحمه الله ومن قلده -؛ كالشيخ شعيب، والاخ الداراني؛ غفلوا عن هذه الحقيقة، وترتب من وراء ذلك - من الأوهام والتصحيح للأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة - ما يتعذر الإحاطة بها، وقد يسر اللَّه لي أثناء طبعي لِـ "صحيح الموارد"، و"ضعيف الموارد" التنبيه على الكثير منها كما سيرى القراء الكرام - إن شاء اللَّه تعالى -، وقد ذكرت آنفًا نماذج منها، أداءً للأمانة، ونصحًا للأمة، وتذكيرًا لأمثالي من طلاب العلم.
فهذا الحق ليس به خفاءُ
…
فدعني عن بُنيَّات الطريق
ذلك؛ وما دمنا لا نزال في تقويم "صحيح ابن حبان"؛ فإن هناك أنواعًا أخرى وقعت فيه منافية للصحة، وفيها بعض الموضوعات، ولذلك كان من تمام هذا الفصل الكلام عنها - ولو موجزًا -، فأقول:
يمكن حصرها فيما يأتي:
الأول: الأحاديث الشاذة.
الثاني: الأحاديث المنكرة.
الثالث: الأحاديث الضعيفة والواهية.
1 -
أما النوع الأول؛ فأحاديثه كثيرة، ومن المعلوم أن الحديث الشاذ: هو ما رواه الثقة مخالفًا من هو أوثق منه، أو أكثر عددًا، وهذا يعني أن إسناده يكون ظاهر الصحة، ولذلك فلا يظهر الشذوذ والمخالفة إلَّا بتتبع الطرق، وإمعان النظر في متونها، وهذا مما لا يتيسر أحيانًا لبعض الحفاظ النقاد المتقدمين، فضلًا عن بعض الكتاب المعاصرين المتعلقين بهذا العلم، الذين لا يعلمون منه إلَّا ظاهرًا من القول، ولا ينظرون فيه إلى أبعد مِن أرنبةِ أنوفهم، كما سترى ذلك جليًّا في عشرات الأحاديث الآتية في "الصحيح"، و"الضعيف".
ثم إن الشذوذ غالبًا ما يقع في المتن، وتارة يقع في السند، وقد يجتمعان، والشذوذ في المتن يكون عادة في بعض أجزائه أو ألفاظه، وهذا يعني أن أصل الحديث صحيح، لكن أحد رواته الثقات شذ وخالف، فوقع في حديثه الخطأ، كما في الحديث الآتي في "الضعيف" برقم (948) بلفظ:
"صيام ثلاثة أيام من كل شهر: صيام الدهر وقيامه".
فقوله: "وقيامه" شاذ ضعيف، والمحفوظ في هذا الحديث وغيره بلفظ:"وإفطاره".
وتأتي له أمثلة أخرى فيه بالأرقام التالية (951، 1305، 1364، [185/ 2 - 5990]، [269 - 7049]، و [270 - 6959]).
وهذا النوع كثير جدًّا في الكتاب الآخر "صحيح الموارد"، ولذلك لم أوثرها
بِـ "الضعيف"؛ من أجل كلمة أخطأ فيها الراوي، لكني نبهت على ذلك تحت كل حديث منها، وأول ما يبادرك فيه الحديث (28)، وفيه:
"لا يقبل الله من عبد توبة أشرك بعد إسلامه".
والصحيح: "عملًا" مكان: "توبة".
وقد غفل عنه - وعن أكثر هذا النوع من الأحاديث الشاذة -: المعلقون الأربعة على "الموارد"، حتى لكأنهم لم يقرؤا شيئًا عنه في كتب المصطلح، حتى ولا في تعريف الحديث الصحيح الذي جاء فيه:
"ولم يشذ، ولم يعل"!
وقد يكون الشذوذ بزيادة في المتن، مثاله حديث (608): "صلاة الليل مثنى مثنى
…
" زاد في آخره: "وسجدتين قبل الصبح"!
وصححه المعلقون الأربعة!
ومثله الحديث (580)، وصححه الشيخ شعيب!
وغيرهما كثير مما سيأتي التنبيه عليها في مواضعها - إن شاء اللَّه تعالى -.
2 -
وأما النوع الثاني، وهي الأحاديث المنكرة؛ فهي أكثر، ويقال في المنكر ما تقدم في الشاذ؛ إلَّا أن المخالف يكون ضعيفًا؛ أي: أنه مع ضعفه يكون قد خالف غيره، وقد تكون النكارة في المتن، ولو لم يخالف، والأول أكثر، وهو موزع في "الصحيح"، و"الضعيف"؛ لأن أصله يكون صحيحًا لذاته، بخلاف الآخر فهو خاص بالضعيف، وهذا يعني أن الحديث قد يكون من أصله منكرًا، بخلاف الأول، ولهذا أمثلة كثيرة سيأتي التنبيه عليها في محالِّها - إن شاء اللَّه تعالى -، ولكني أستعجل ببعض الأمثلة:
الأول: حديث أبي هريرة الآتي في الكتابين برقم (22):
"أفضل الأعمال عند اللَّه - تعالى -: إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه، وحج مبرور"، قال أبو هريرة: حجة مبرورة تكفر خطايا سنة.
قلت: فجملة "وغزو لا غلول فيه"، وقول أبي هريرة الموقوف؛ منكر لا يصح، حتى ولا لغيره، وأصل الحديث في "الصحيحين" دون هاتين الزيادتين.
وإن من غرائب الشيخ الشعيب، وأخطائه الفاحشة: أنه صحح الحديث لغيره في تعليقه عليه هنا في "الموارد"؛ لشواهد خرَّجها في تعليقه على "الإحسان"، ولم يسق ألفاظها، وليس فيها أي شاهد! وزادَ ضغثًا على إبَّالةٍ: فَصحّح إسناده على شرط الشيخين! ثم تراجع عنه هنا!
وأما الأخ الداراني؛ فلم يكن أسعد منه في تعليقه على الحديث، فوافقه على الاستشهاد بما لا شهادة فيه! وزاد عليه الاستشهاد بحديث "الصحيحين"! وأن إسناد حديث الباب حسن! ظلمات بعضها فوق بعض!!!
وسترى الرد مفصلًا فيما يأتي من التعليق على الحديث - بإذن اللَّه تعالى -، ومن أراد الوقوف عليها؛ فليتتبعها في فهرس الأبواب والمواضيع.
الثاني: الآتي في "الصحيح"(299 - عن ابن عمر في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن شر البقاع؟ فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل)!
فذِكْرُ ميكائيل عليه السلام هنا منكر؛ لِضعف إسناده، وتعريه من شاهد يقويه، بخلاف أصله، ولقد غفل عن هذه الحقيقة أولئك المعلقون الأربعة، فحسنوا الحديث بهذه الزيادة المنكرة؛ مستشهدين بالشواهد الخالية منها!!
الثالث: حديث عائشة الآتي في "الصحيح" أيضًا (392) في النهي عن التخلف عن الصف الأول: "حتى يخلفهم اللَّه في النار".
فهذه الزيادة كالتي في الحديث قبله منكرة أيضًا، ومع ذلك صححها
المشار إليهم آنفًا، مستشهدين بحديث لمسلم ليس فيه الزيادة!!
الرابع: حديث أبي هريرة الآتي في "الضعيف"(410) في الترهيب عن المرور بين يدي المصلي: "لكان أن يقف مائة عام"، فذِكْرُ (المائة) فيه منكر، مخالف لحديث "الصحيحين"! ومع ذلك حسَّنه الداراني، واستشهد له بِـ "الصحيحين"!! وسبقه إلى بعض ذلك غيره!
الخامس - وهو من أغرب الأمثلة -: حديث سهل بن سعد الآتي في آخر "الضعيف"(2404) بلفظ: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شاهرًا يديه يدعو على منبر ولا غيره
…
؛ فإنه - مع ضعف إسناده - مخالف للأحاديث الصحيحة في "الصحيحين" وغيرهما، وبعضها في "صحيح ابن حبان" كالحديثين الآتيين في "صحيح الموارد"(601، 604)! مع هذا كله صححه ابن حبان! وتبعه ظِلُّهُ الداراني، فحسَّن إسناده، ثم استشهد له بشاهدين ليس فيهما النفي المذكور! وتابعه في بعضه الشيخ شعيب، فقال:
"صحيح بشواهده"! ثم أشار إلى الشاهدين اللذين ذكرهما الداراني!
وبالجملة؛ فالأمثلة كثيرة جدًّا، وما ذكرته كافٍ لإثبات تساهل ابن حبان في تخريجه الأحاديث الشاذة والمنكرة، وقد مضت أمثلة أخرى (ص 83)، فمن رغب في جمعها، أو الوقوف عليها بيسر؛ فليراجع (الفهرس) كما سبق.
الثالث: الأحاديث الضعيفة، والواهية (1).
* * *
(1) هذا ما تمَّ نقلُه من خطِّ شيخِنا الإمام رحمه الله، فإنَّه لم يُكمِلِ المُقدمةَ - تغمدَه اللهُ برحمته، وأعظم له الأجرَ والمثوبةَ -.