الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الفصل الأول): تقويم كتاب "الثقات
"
ابتداءً؛ يكفينا الاستشهاد على تساهله فيه قول أعرَف الحفاظ بالرجال بعد الحافظ الذهبي؛ ألا وهو الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله؛ فإنه قال في مقدمة كتابه "لسان الميزان"(1/ 14):
"قال ابن حبان: من كان منكر الحديث على قلته؛ لا يجوز تعديله إلَّا بعد السبر، ولو كان ممن يروي المناكير، ووافق الثقات في الأخبار؛ لَكان عدلًا مقبول الرواية، إذ الناس في أحوالهم (1) على الصلاح والعدالة؛ حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، هذا حكم المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلَاّ الضعفاء، فهم متروكون على الأحوال كلها".
قال الحافظ عقبه:
"قلت: وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان؛ من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه؛ كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه: مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهو مسلك ابن حبان في "كتاب الثقات" الذي ألَّفه؛ فإنه يذكر خلقًا ممن نص عليهم أبو حاتم - وغيره - على أنهم مجهولون، وكأَن عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره، وقد أفصح ابن حبان بقاعدته، فقال:
(العدل من لم يعرف فيه الجرح؛ إذ التجريح ضد التعديل، فمن لم
(1) الأصل: "أقوالهم"! والتصويب من "الضعفاء"(2/ 192 - 193).
يجرح؛ فهو عدل حتى يتبيّن جرحه؛ إذ لم يكلف الناس ما غاب عنهم) (1).
قال الحافظ - عَقِبَهُ -:
"وقال في ضابط الحديث الذي يحتج به: (إذا تعرَّى راويه من أن يكون مجروحًا، أو فوقه مجروح، أو دونه مجروح، أو كان سنده مرسلًا، أو منقطعًا، أو كان المتن منكرًا)(2).
هكذا نقله الحافظ شمس الدين ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي"، وقد تصرف في عبارة ابن حبان، لكنه أتى بمقصده، وسياق بعض كلامه في (أيوب) - آخِرِ مذكور في حرف الألف -.
قال الخطيب: أقل ما يرتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم؛ إلَاّ أَنَّه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما".
قلت: ونص كلام ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتابه "الثقات"(1/ 11):
"ولا أذكر في هذا الكتاب إلَاّ الثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم".
ثم أكد ذلك بقوله (ص 11 - 12):
"فكل من أذكره في هذا الكتاب؛ فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعرى خبره عن خصال خمس، فإذا وجد خبر منكر عن واحد ممن أذكره في كتابي هذا؛ فإن ذلك الخبر لا ينفك من إحدى خمس خصال: إما أن يكون فوقه رجل ضعيف، أو دونه، أو يكون إسناده مرسلًا، أو منقطعًا، أو فيه رجل مدلس لم
(1) قلت: هذا كلام ابن حبان في مقدمة "الثقات"(1/ 13).
(2)
الذي في مقدمة "الثقات"(1/ 12) - مكان الخصلة الخامسة -: "أو أن يكون في الإسناد رجل يدلس لم يبين سماعه".
وهكذا هو في "الصارم المنكي"(93 - 94)، وليس فيه قوله:"راويه من أن يكون مجروحًا"! وهو خطأ - كما سأبيَّنه -.
يبين سماعه". انتهى باختصار.
فكنت أود أن ينقله الحافظ مع ما نقل؛ لأنه أعم وأشمل في بيان منهج ابن حبان في "ثقاته" أولًا، ثم هو يبين خطأ ما نقله عن ابن عبد الهادي ثانيًا؛ إذ ليس فيه:"راويه من أن يكون مجروحًا" - كما تقدم -؛ لأن الخصال الخمس هي عنده في غيره كما هو ظاهر؛ لأنه عنده ثقة يحتج بخبره إذا سلم إسناده من خصلة من تلك الخصال الخمس، وما يقع مثل هذا الخطإ إلَاّ من التلخيص، وسرعة النقل! ومن الغرائب أن الحافظ السخاوي قد نقله عن شيخه الحافظ ابن حجر، لكن بعبارة أخرى في صدد بيان اصطلاح ابن حبان في "صحيحه"؛ نصها في "فتح المغيث" (1/ 37):
"فإنه يخرّج في "الصحيح" ما كان راويه ثقة، غير مدلس، ولم يكن هناك إرسال، ولا انقطاع، ولم يكن في الراوي جرح ولا تعديل (!)، وكان كل من شيخه، والراوي عنه ثقة، ولم يأت بحديث منكر، فهو عنده ثقة".
قلت: فهذا خلط آخر ينسب إلى ابن حبان، وهو منه بريء، يدلك عليه أن أول المنسوب إليه هنا إنما هو في شروط الحديث الصحيح، وآخره فيمن هو الثقة عنده!
والأول هو الذي يدلُّ عليه كلامه الذي نقلته عنه آنفًا؛ أن الشروط المذكورة إنما هي في حديث الثقة عنده، وليس فيمن هو الثقة؟ فتأمل!
والظاهر أن الحافظ السيوطي تنبه لهذا الخطإ، فنقل ما عزاه السخاوي لابن حجر، لكن السيوطي لم يسمه؛ بل أشار إلى تمريضه بقوله في "تدريب الراوي" (1/ 108): "قيل
…
"!
على أن قول الحافظ: "ولم يكن في الراوي جرح ولا تعديل" لا يستقيم مع كلام ابن حبان أولًا؛ لأنه غير مذكور في شروطه كما رأيت، وهذا مثل لو قال:
"مجهول"، وهذا ينافي من جهة أخرى قول ابن حبان المتقدم: "العدل من لم يعرف فيه الجرح
…
" إلخ، فمن ليس فيه جرح؛ فهو عنده عدل، ولذلك انتقده الحافظ - كما سبق -، فكيف يدخل في شروطه التي ينبغي أن يكون إسناد الثقة عنده سالمًا منها من كان عنده ثقة عدلًا؟! والصواب أن يذكر مكانه: "ضعيف" - كما تقدم في نص ابن حبان - نفسه -.
ثم إن قول الحافظ: "ولم يأت بحديث منكر" ينبغي أن يُحمل على أحد رواة إسناد الثقة عنده، وليس كما فهمه بعض الجهلة المدعين المعرفة بهذا العلم؛ حيث قال:
"يَشترط ابن حبان في الراوي الذي يكون ثقة - حسب تعريفه - أن لا يأتي بخبر منكر؛ لكي يدخله في (الثقات) "(1)!!
وعزا ذلك في الحاشية لكتاب "فتح المغيث"، و"تدريب الراوي" بالجزء والصفحة، وهو كذب عليهما! وهو مما يؤكد جهله وقلة علمه؛ فإنه ليس من شرط الثقة أن لا يروي حديثًا منكرًا؛ لأن معنى ذلك أن يكون معصومًا من الخطإ، وهل يقول هذا عاقل يفهم ما يلفظه لسانه، أو يجري قلمه؟! وإنما يكون شرطًا فيه أن لا تكثر المناكير في رواياته، ولذلك فرقوا بين من قيل فيه:"يروي المناكير"، وبين من قيل فيه:"منكر الحديث"، فهذا ضعيف بخلاف الأول، وقد سبق (ص 11) في كلام ابن حبان ما يشهد لهذا التفريق، وهو أمر معروف في علم المصطلح.
ومعذرة إلى القراء الكرام؛ فقد ابتعدت قليلًا عن موضوع البحث بسبب
(1) انظر "إقامة البرهان على ضعف حديث: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان) " للمدعو خالد أحمد المؤذن؛ وفيه أوهام وجهالات؛ لو تفرغ له عالم ناقد؛ لَكان منه مجلد، وما ذكرت الآن كافٍ - إن شاء الله تعالى -.
بيان بعض الأوهام التي وقعت حول مذهب ابن حبان في كتابه "الثقات".
ومجمل القول فيه: أنه شذ في تعريفه (العدل) بأنه من لم يعرف بجرح عن الحفاظ الذين دُوِّنَتْ أقوالهم في مبسوطات كتب العلماء، ولخصت فوائدها في (علم مصطلح الحديث)، الذي صار مرجعًا لكل باحث متبع، لا يحيد عنه إلَاّ ذو هوى ومبتدع، أو جاهل مُدّعٍ مغرض، كما شذ في قوله أنه لم يذكر في "ثقاته" إلَّا الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم؛ بل إنه تناقض في ذلك كل التناقض، وهاك البيان:
1 -
أما شذوذه في تعريف (العدل)؛ فقد اتفق العلماء على أن (العدل):
هو المسلم البالغ، العاقل الذي سلم من أسباب الفسق، وخوارم المروءة، على ما حقق في (باب الشهادات) من كتب الفقه؛ إلَاّ أن الرواية تخالف الشهادة في شرط الحرية، والذكورة، وتعداد الراوي.
هذا نص كلام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث" لابن كثير (ص 102 - بتحقيقه)، آثرته بالذكر؛ لأنه من المبالغين في الاعتداد بِـ "الثقات" كما يدل عليه تعليقاته في "صحيح ابن حبان"، و"مسند أحمد"، و"سنن الترمذي" وغيرها، ولي معه في ذلك قصة؛ لعلِّي حكيتها في بعض ما كتبت، فإنْ تذكرت مكانها؛ أشرت إليه.
وكأني بشيخ الإسلام ابن تيمية عنى ابن حبان بالرد عليه بقوله في "الفتاوى"(5/ 357):
"وأما قول من يقول: الأصل في المسلمين العدالة؛ فهو باطل؛ بل الأصل في بني آدم الظلم والجهل؛ كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ومجرد التكلم بالشهادتين لا يوجب انتقال الإنسان من الظلم والجهل إلى العدل".