الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"بلغوا عني ولو آية
…
" الحديث، متفق عليه.
وقوله: "وليبلغ الشاهد الغائب" ونحو ذلك.
فليس هناك شرط في (العدل) إلَاّ ما يشترط في الشاهد، وإلا الحفظ والضبط، على ما تقدم.
نعم؛ لو جعل ذلك شرط كمال، وليس شرط صحة - كما هو الشأن في (شرط التلاقي) عند الجمهور -؛ لَكان له وجه مقبول! وقد أشار إليه الحافظ في تعريفه للحديث الصحيح - كما سبق -، ولعل ابن حبان رحمه الله أراد ذلك، فقصرت عبارته عن قصده؛ فإني أستبعد جدًّا عن مثله أن يخفى عليه بطلان هذا الشرط وفساده؛ لأن طلاب العلم جميعًا يعلمون أن الكتاب والسنة؛ ما رواه لنا ولا نقله إلينا إلَّا (الأميون) بنص قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، فلم يكونوا فقهاء، ولكنهم كانوا آية في الحفظ والأداء كما هو معروف عنهم في سيرتهم وتراجمهم، ثم صاروا بما حفظوا فقهاء، ثم هم فيه ليسوا سواءً، كما هو صريح حديث النضرة المتقدم؛ بل وليسوا كذلك في الحفظ والأداء، فمنهم من له الحديث والحديثان، ومنهم من له الألوف كما هو معروف، وعلى هذا جرى من بعدهم من السلف رحمهم الله جميعًا -، فالشرط باطل، والحق كما قيل:
وكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خلف
تبرئة اللكنويِّ ابنَ حبَّانَ من (التساهل)، والرد عليه:
وبهذا المناسبة أقول:
ومن العجائب - أيضًا -: أن بعضهم استغل تعنت ابن حبان الذي ذكرت
بعضه آنفًا، غير تشدده في تضعيف بعض الثقات كما هو مذكور في كتب التراجم، وبخاصة منها "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للحافظ الذهبي (1)، وقد ذكره فيهم العلامة أبو الحسنات اللكنوي الحنفي في "الرفع والتكميل"(ص 119 - 120)، ثم قال (137 - 139) ما ملخصه:
"كثيرًا ما تراهم يعتمدون على "ثقات ابن حبان"، وقد التزم الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" في جميع الرواة الذين لهم ذكر في "ثقاته" بذكر أنه ذكره ابن حبان في "الثقات"
…
، وقد نسب بعضهم التساهل إلى ابن حبان، وقالوا: هو واسع الخَطْو في باب التوثيق، يوثق كثيرًا ممن يستحق الجرح، وهو قول ضعيف؛ فإنك قد عرفت سابقًا أن ابن حبان معدود ممن له تعنت وإسراف في جرح الرجال، ومن هذا حاله؛ لا يمكن أن يكون متساهلًا في تعديل الرجال"!
فأقول:
هذا الجزم بعدم الإمكان من عجائبه وغُلَوائه؛ إذ هو ممّا لا دليل عليه إلَاّ حسن ظنه به! وهذا لا ينفي بداهة أن يقع منه ما هو مستبعد أن يقع من أي حافظ من أمثاله؛ بل هو كما لو قال قائل في بعض الصالحين: لا يمكن أن يكذب أو يزني! نعم؛ استبعاد صدور ذلك وارد في المثال، وفيما نحن في صدده، لكن البحث والتحري مع الدقة والإنصاف؛ كل ذلك كشف عن أنه أمر واقع؛ ما له من دافع، كما سبق بيانه بتفصيل قد لا تراه في مكان آخر.
ولا أدلَّ على ذلك من اشتراطه في الثقة الحافظ أن يكون فقيهًا؛ وإلا لم يجز الاحتجاج بخبره! كما تقدم نقله عنه مع بيان بطلانه (ص 17 - 18)، فأي تعنت أشد من هذا؟! ولذلك لما نقل الحافظ ابن رجب الحنبلي كلامه بتمامه
(1) من ذلك قوله (1/ 274): "قلت: ابن حبان ربَّما قَصَّبَ الثقة؛ حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه"!
وطوله؛ تعقبه وردَّه عليه بقوله في "شرح الترمذي"(ق 122/ 2):
"وفيما ذكره نظر، وما أظنه سُبق إليه، ولو فتح هذا الباب؛ لم يحتج بحديث انفرد به عامة حفاظ الحديث كالأعمش - وغيره -، ولا قائل به، فأما مجرد هذا الظن فيمن ظهر حفظه وإتقانه؛ فلا يكفي في رد حديثه، والله أعلم".
فكما وقع منه هذا التعنت الغريب؛ وقع منه ذاك التساهل العجيب.
وأما ما ذكره أبو الحسنات في مطلع كلامه السابق من اعتمادهم على "ثقات ابن حبان"، والتزام ابن حجر بذكر من وثقه في "تهذيبه"؛ فمما لا يفيد شيئًا ولا يجدي!
أما الاعتماد على هذا الإطلاق؛ فلأنه باطل - لما سبق -.
وأما الالتزام؛ فلأنه كتاب يجمع كل ما قيل في رجاله من تجريح وتوثيق، دون أي ترجيح أو تحقيق إلَاّ ما ندر، فهو كالتزامه أن يذكر فيه من جرحه ابن حبان أيضًا، وقد يذكر أحيانًا تناقضه في بعضهم، فهل يعني ذلك اعتماده على توثيقه أو تجريحه؟! كيف والحافظ قد صرح في "تقريب التهذيب" بجهالة كثير ممن وثقهم ابن حبان، وتارة يقول:"مستور"، وتارة:"مقبول"، وتارة:"صدوق"، وأخرى:"ثقة"؟! أصاب في بعض ذلك، وأخطأ في بعض، وتفصيل القول فيه يحتاج إلى إعداد خاص، وهو غير متيسر الآن، وكثير منه مبثوث في تعليقاتي وكتبي، وبخاصة منها "تيسير الانتفاع" أخيرًا، وهناك تجربة في "ثقات ابن حبان" وموقف الحفاظ منه، كنت أجريتها مع طلاب الجامعة الإسلامية في درس غير معهود في سائر الجامعات، إلَاّ وهو (درس الأسانيد)، وذلك سنة (1382)، كنت ذكرتها في تعليق لي على كتاب "التنكيل"، يحسن الاطلاع عليه منه (1/ 438)، فمن شاء رجع إليه.
ثم إن أبا الحسنات اللكنوي عقّب على كلامه السابق بمطعنٍ عن الحافظ ابن حجر والسيوطي لا ينافي ما حققته من تساهل ابن حبان، ولا يؤيد استنكار اللكنوي لا من قريب ولا من بعيد؛ لأن غاية ما انتهيا إليه أنه اصطلاح له، و"لا مشاحَّة في الاصطلاح"؛ أعرضت عن نقلهما؛ لأن البحث ليس فيه، وإنما في تساهله، وقد تجلى لكل ذي عينين.
وقد كنت ذكرت في بعض تعليقاتي القديمة - مثلًا - أبا الفرج بن الجوزي؛ فإنه يشبه تمامًا ابن حبان من حيث إنَّه جمع بين النقيضين في شخصه، فهو معروف عند العلماء بتشدده وتعنته من جهة، وقد وصفه بذلك أبو الحسنات نفسه في "الرفع"(ص 132)، فجعله "ممن لهم تعنت في جرح الأحاديث بجرح رواتها"، ولكن فاته أنه متساهل - أيضًا - في روايته للأحاديث الواهية؛ بل والموضوعة في بعض كتبه من جهة أخرى؛ كما شهد بذلك بعض الحفاظ النقاد، والتحري العلمي الدقيق، فقال فيه الحافظ السخاوي متعجبًا منه في "فتح المغيث" (1/ 238):
"قد أكثر في تصانيفه الوعظية، وما أشبهها من إيراد الموضوع وشبهه".
وترى بعض الأمثلة على ما ذكر في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" رقم (5588، 6919 - 6921).
قلت: فقد ثبت يقينًا أنه لا منافاة بين كون ابن حبان متساهلًا في توثيق بعض رواته في "الثقات" - كما وصفه كثير من الحفاظ النقاد -، وبين كونه متعنتًا في ذلك - كما وصفه آخرون منهم أو من غيرهم -، فالوصفان قائمان به، والكل صادق فيما وصف.