الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - باب ذكر اللَّه عز وجل والتقرب إليه
ــ
1 -
باب ذكر اللَّه عز وجل والتقرب إليه
في (الصحاح)(1): الذكر والذكرى نقيض النسيان، انتهى. والذكر يكون بالقلب وباللسان، وقال الفقهاء: الذكر إنما يكون باللسان، وأدناه أن يُسْمِعَ نفسَه على القول المختار، ولا يعتبر بدون ذلك كما في القراءة والطلاق والعتاق، والذي بالقلب هو فعل القلب من قسم العلم والتصور وليس بذكرٍ كما هو ليس بقراءة، أما الذكر فهو اسم لما هو فعل اللسان، ولا يدرى ما مقصودُهم: إن أرادوا أنه لا يسمى ذكرًا في اللغة، فذلك خلاف ما نقلناه من أنه ضد النسيان وهو فعل القلب، نعم يسمى فعل اللسان أيضًا ذكرًا فهو لفظ مشترك بينهما، فالذكر ليس بمعنى القول والكلام، ولو كان بمعناه فالكلام يكون نفسيًّا ولفظيًّا، فكيف لا يكون الذكر قلبيًّا ولسانيًّا؟ وإن أرادوا أن الفضلائل والخواص التي وردت في شأن الذكر لا تثبت لما هو بالقلب ولا تترتب عليه، فذلك أيضًا قول بلا دليل، وكيف لا يكون بعد ما كان اسمًا له؟ وإن أرادوا أن الأفضل أن يكون باللسان مع مواطأة القلب فذلك شيء آخر، وقول لا ينازع فيه.
ونقل الطيبي (2) عن (شرح صحيح مسلم): أن الذكر قد يكون بالقلب وقد يكون باللسان، والأفضل منهما ما يكون باللسان مع القلب جميعًا، فإن اقتصر على أحدهما فبالقلب أفضل.
وفي (شرح صحيح مسلم)(3): ذكر اللَّه سبحانه ضربان: ذكر القلب وذكر اللسان،
(1)"الصحاح"(2/ 664).
(2)
"شرح الطيبي"(4/ 336).
(3)
"شرح النووي على صحيح مسلم"(17/ 15).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وذكر القلب نوعان، أحدهما: أرفع الأذكار وأجلُّها وهو التفكر في عظمة اللَّه وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في أرضه وسماواته، ومنه الذكر الخفي في الحديث:(خير الذكر الخفيُّ)، والثاني: ذكره بالقلب عند الأمر والنهي.
وعند مشايخ الطريقة الذكر نوعان: قلبي ولساني، وأثر القلبي أقوى وأعظم من اللساني، بل الذكر القلبي هو الذكر في الحقيقة، وحقيقة الذكر عندهم نسيان ما سوى اللَّه أخذًا من قوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، والقياس على الطلاق والعتاق غير صحيح، فإنهما اسمان لما هو باللسان، وقد عرف في الشرع أن حكمهما لا يترتب بدون فعل اللسان، وكذلك القراءة، وليس كذلك الذكر، ولعلهم أرادوا أن المعتبر في الأذكار والأوراد الواردة في الشرع فضائلُه كالتسبيح أدبار الصلوات، وفي الصلوات وأمثالها، يترتب ثوابها عليها أن يكون بحيث يحصل بها اللفظ وإسماع النفس كما في القراءة، يدل على ذلك كلام الجزري في (الحصن الحصين)، وأما أن الذكر بالقلب لا يسمى ذكرًا أصلًا، ولا يحصل به ثواب ذكر اللَّه تعالى، فذلك محل نظر، واللَّه أعلم.
ثم إنهم قالوا: ليس الذكر منحصرًا في التسبيح والتهليل والتكبير، بل كل مطيع للَّه سبحانه في عمل فهو ذاكر في امتثال أمر اللَّه، وأفضل الذكر القرآن إلا فيما شُرِعَ لغيره، وقد ورد:(أفضل الذكر لا إله إلا اللَّه)، وهو جزء من القرآن، وقد اختار المشايخ هذه الفوائد ونتائج تحصل منه يعرفها أرباب هذا الشأن.
ثم إنه قد ثبت بالأحاديث المذكورة في الباب ويغيرها من الأحاديث فضل الاجتماع للذكر والتسبيح والتحميد والتكبير، والظاهر أنه يكون على ذكر واحد، فإنه إن كان كل واحد على ذكر على حِدَةٍ، فإن كان سرًّا فجدوى الاجتماع غير ظاهرة، وإن كان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
جهرًا وكلٌّ على ذكره ففيه من إساءة الأدب بالتخليط وغيره مما لا يَسُوغ في حديث الناس فضلًا عن ذكر اللَّه سبحانه.
وتأويل الذكر بالعلم مرة وبذكر الآلاء أخرى بعيد خلاف الظاهر، وتأويل التسبيح والتكبير والتحميد بالتذاكر في التوحيد وصفاته تعالى أبعد، والنصوص محمولة على ظواهرها ما لم يصرف عنها الدليل.
ثم الجهر بالذكر مشروع بلا شبهة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن ذكرني في بلاء) كما سيأتي، ومن أدلته {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. قال ابن عباس: ما كنت أعرف انصراف الناس من الصلاة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا بالذكر، رواه البخاري (1). والجهرُ في ذكر العيد وفي أدبار الصلوات وبالثغور وفي الأسفار حتى قال عليه الصلاة والسلام:(ارْبَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا)(2)، ومضمون (اربعوا) يدل على أن المنع للشفقة عليهم لا لعدم الجواز، وقد جهر صلى الله عليه وسلم بأذكار وأدعية في مواطن جمة وكذا السلف، وكل هذه دالة على الجهر والجمع، لكن في قضايا مخصوصة يكون وجودها مستنَدًا لا دليلًا؛ لاحتمال قصرها على ما وقعت فيه، فمن نظر إلى المعنى والعلة أجازها على العموم، ومن نظر إلى الخصوص قصرها على مواردها، والأول أوفق بمطالب الشرع ومقاصدها، فظهر مما ذكر صحة ما استحسن بعض المشايخ من الصوفية من الاجتماع للذكر أو الحزب الواحد، والتحليق لذلك، ومنه حديث:(حِلَقُ الذكر).
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه" نحوه (841).
(2)
أخرجه البخاري في "صحيحه"(2992).