الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
2715 -
[1] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ،
ــ
وليس حدود الحرم من جميع الجهات متساوية، أقربها من جهة التنعيم، وقد بيَّنها مفصلًا في (تاريخ مكة)(1).
الفصل الأول
2715 -
[1](ابن عباس) قوله: (لا هجرة، ولكن جهاد ونية) كانت الهجرة من مكة إلى المدينة مفروضة على من يستطيع بعد أن هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلي المدينة، فلما فتح مكة انقطعت تلك الهجرة المفروضة، وبقيت الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام صونًا للدين، وهي داخلة في قوله:(ولكن جهاد ونية) أي: بقي الجهاد، ويُحرز بها (2) من الثواب والفضيلة ما فات من الهجرة، وبقي إحسان النية في كل عمل، وهذا أيضًا في معنى الهجرة بترك هوى النفس والخروج عن موطن الطبيعة بهجران ما نهى اللَّه عنه.
وقوله: (ذا استنفرتم) بلفظ المجهول من النفير، وفي (النهاية) (3): الاستنفار: الاستنصار، أي: إذا طُلِب منكم النصرة فأجيبوا، أي: إذا دعاكم الإمام إلى الغزو فاذهبوا.
وقوله: (يوم خلق السماوات والأرض) كناية عن كونه أمرًا قديمًا وشريعة سالفة
(1) انظر: "أخبار مكة" للفاكهي (2/ 246).
(2)
كذا في الأصل، والظاهر:"يحرز به".
(3)
"النهاية"(5/ 92).
فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ،
ــ
ليس مما أحدثه الناس أو اختصَّ بشريعة، ويجوز أن يراد أنه خلقت هذه الأرض حين خلقها محرمة، كذا قالوا، والظاهر أن خلقها محرمة حين خلقها بمعنى تقدير التحريم فيها لا الحكم به بالفعل، وإنما حرمتُه في زمان آدم أو الخليل كما نقلنا، ويؤيده ما قيل: إنه كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر اللَّه تعالى.
وقوله: (ولم يحل لي إلا ساعة من نهار) يدل ظاهرًا على وقوع القتال فيه، وقد وقع من خالد بن الوليد، وكان ذلك بأمر من النبي أو بإذن منه صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذهب الأكثرون ومنهم أبو حنيفة أن مكة فتحت عنوةً، وعن الشافعي وهو رواية عن أحمد أنها فتحت صلحًا؛ لأنهم لم يتهيؤوا للحرب، وإنما وقعت اتفاقًا بعد دخول خالد وتعرض بعض المشركين له، واعتذارُه صلى الله عليه وسلم بحلِّ القتال له ساعة صريحٌ في وقوع القتال والفتح عنوة، وثمرة الخلاف أن من قال: فتحت عنوة، لا يجوِّز بيع دُورها وإجارتَها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من الكفار وجعلها وقفًا بين المسلمين، ومن قال بالفتح صلحًا جوَّز ذلك لأنها مملوكة لأصحابها مبقاةٌ على أملاكهم.
وقوله: (لا يعضد) أي: لا يقطع (شوكه) فضلًا عن أشجارها، وقد وقع في رواية أبي هريرة:(لا تعضد شجرتها) قال في (الهداية)(1): فإن قطع حشيش الحرم أو شجره -وهي ليست بمملوكة وهو ما لا ينبته الناس- فعليه قيمته إلا ما جفّ منه، وما جف
(1)"الهداية"(1/ 171).
وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا،
ــ
من شجر الحرم لا ضمان فيه؛ لأنه ليس بنامٍ، ولا يرعى حشيش الحرم، ولا يقطع إلا الإذخر، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس بالرعي؛ لأن فيه ضرورةً، فإنَّ منع الدواب عنه متعذِّر، ولنا ما روينا، وحمل الحشيش من الحلِّ ممكن فلا ضرورة، وبخلاف الإذخر لأنه استثناه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيجوز قطعه ورعيه، وبخلاف الكمأة لأنها ليست من جملة النبات، انتهى.
وعند الشافعي ومن وافقه: يجوز رعي البهائم في كلأ الحرم، ومذهب أحمد كمذهبنا.
سمعت الشيخ الإمام العارف باللَّه عبد الوهاب رحمه الله يحكي عن عارضة عماه، وقد عرضه في أواخر عمره، أنه كان من أصحابنا رجل يسمى أحمد السقا، جاء بوَرد من الحرم، فناولنيه، فشممته ساهيًا أنه من الحرم، فكما شممت سرى ألم إلى الخيشوم كما تدبّ النملة حتى بلغ الدماغ، ووصل إلى العينين، وجعلت تزداد يومًا فيومًا، حتى صار ما صار، وآل الأمر إلى ما شاء اللَّه.
وقوله: (ولا ينفر) من التنفير، ويدلّ على حرمة الإتلاف بطريق الأولى، فالتنفر حرام، فإن تلف في نفاره قبل السكون ضمن.
وقوله: (ولا يلتقط) بلفظ المعلوم، و (لقطته) بضم اللام وسكون القاف، والأفصح فتحها، في (القاموس) (1): لَقَطه: أخذه من الأرض، فهو ملقوط ولقيط، واللَّقَطُ محركة وكحُزْمة وهُمَزة وثمامة: ما التُقط.
وقوله: (إلا من عرفها) من التعريف، يعني: ليس في لقط الحرم إلا التعريف،
(1)"القاموس المحيط"(ص: 632).
وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا"، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ. . . . .
ــ
فلا يستنفقها، ولا يتصدق بها، بخلاف لقط سائر البقاع، وهو أظهر قولي الشافعي، ولم يفرق أكثر العلماء بين لقطة الحرم ولقطة غيره من الأماكن وهو مذهبنا، والدليل لهم إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:(اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة) من غير فصل، وسيجيء الكلام فيه في (باب اللقطة) إن شاء اللَّه تعالى. وقالوا: معنى قوله: (إلا من عرفها) أن يعرِّفها كما يعرّفها في سائر البقاع حولًا كاملًا حتى لا يتوهَّم متوهِّم أنه إذا نادى وقت الموسم فلم يظفر مالكها جاز أن يتملكها.
وهذا خلاف ظاهر العبارة، وأيضًا أن الكلام ورد مورد بيان الفضائل المختصة بها كتحريم صيدها وقطع شجرها، وإذا سوِّي بين لقطة الحرم ولقطة غيره من البلاد، وجدنا حكم اللقطة في هذا الحديث خاليًا عن الفائدة، واللَّه أعلم.
وقوله: (ولا يختلى خلاها) بلفظ المجهول، أي: لا يقطع، والخلا مقصورًا: النبت الرقيق ما دام رطبًا، فإذا يبس فهو الحشيش، والحشيش أيضًا لا يحل قطعه كما دل عليه:(ولا يعضد شوكه)، ومن المحدثين من روى (الخلاء) ممدودًا، وهو خطأ، كذا قال التُّورِبِشْتِي (1).
وقوله: (فقال العباس) هكذا في أكثر الروايات، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من الصحيحين:(فقال رجل من قريش)، و (الأذخر) بكسر الهمزة والخاء: نبت طيب الرائحة.
وقوله: (فإنه لقينهم) القين بفتح القاف: الحداد والصانع، أي: يحتاج إليه في
(1)"كتاب الميسر"(2/ 641).
وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ:"إِلَّا الإِذْخِرَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1834، م: 1253].
2716 -
[2] وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: "لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتهَا إِلَّا مُنْشِدٌ". [خ: 112، م: 1355].
2717 -
[3] وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1356].
2718 -
[4] وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: "اقْتُلْهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1846، م: 1357].
ــ
وقود النَّار، (ولبيوتهم) أي: سقفهم، وفي الحديث الآخر:(فإنه لقيوننا (1)) جمع قين، وقد جاء في الصحيحين:(فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا).
وقوله: (فقال إلا الأذخر) أوحي إليه صلى الله عليه وسلم في الحال باستثناء الإذخر، أو هذا مبني على تفويض الأحكام إليه، أو قال بالاجتهاد، والأول أظهر وأصح، واللَّه أعلم.
2716 -
[2](أبو هريرة) قوله: (إلا منشد) أي: منادٍ مُعرِّفٌ، أنشد الضالة: عرفها واسترشد عنها ضد، والنشيد: رفع الصوت.
2717 -
[3](جابر) قوله: (أن يحمل بمكة السلاح) أي: بلا ضرورة وحاجة، وعليه الجمهور، وقيل: مكروه مطلقًا.
2718 -
[4](أنس) قوله: (ابن خطل) وفي أكثر النسخ: (أن ابن خطل) واسمه عبد اللَّه، وقيل: عبد العزيز، وقيل: غالب، وكان قد ارتد، وقتل مسلمًا كان يخدمه، وكان يهجو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وقيل: كان له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين،
(1) رواه ابن أبي شيبة (36900).
2719 -
[5] وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1358].
2720 -
[6] وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ. . . . .
ــ
وقال النووي (1): في الحديث دليل لمن أجاز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة كمالك والشافعي رحمهما اللَّه، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وأجيب [عن الحديث] بأن حكمه مستثنى كاستثنائه من قوله صلى الله عليه وسلم:(من دخل المسجد فهو آمن)، وبأنه قتله في الساعة التي أبيحت له، ولعله أخرجه من الحرم فقتل، واللَّه أعلم.
2719 -
[5](جابر) قوله: (وعليه عمامة سوداء بغير إحرام) فيه دليل على أنه لا يجب الإحرام لمن يريد دخول مكة لا للنسك، وهو أصح قولي الشافعي رحمه الله، والجواب عند الحنفية أنه أحل له صلى الله عليه وسلم ساعة.
وقوله: (سوداء) فيه استحباب لبس الأسود، وقيل: لم تكن سوداء، بل اسودت بالاستعمال بالادِّهان وغيره، واللَّه أعلم.
2720 -
[6](عائشة) قوله: (يغزو جيش) إخبار عما يقع في آخر الزمان، والجيش هو جيش السفياني ملك مصر [في] عهد المهدي الموعود.
وقوله: (ببيداء من الأرض) ظاهره يدل على أن المراد جنس البيداء، وقيل: موضع مخصوص بين مكة والمدينة.
وقوله: (وفيهم الأسواق) الظاهر أنه جمع سوق، والمراد أهلها، والسوقة يجيء
(1)"شرح صحيح مسلم"(9/ 132).
وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؛ قَالَ: "يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2118، م: 2884].
2721 -
[7] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّويقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1596، م: 2909].
2722 -
[8] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [خ: 1595].
ــ
بمعنى الرعية، ولكن في جمعها على أسواق تردد.
وقوله: (ومن ليس منهم) أي: موافقًا لهم في قصد تخريب الكعبة كالأسارى والصغار وأمثالهم.
وقوله: (يخسف بأولهم وآخرهم) وهكذا قد يجري الحكم الإلهي يهلك الأخيار بشؤم الأشرار ثم يميز بينهم في الآخرة.
2721 -
[7](أبو هريرة) قوله: (ذو السويقتين) تثنية سويقة تصغير ساق، أبدلت ألفه واوًا للضمة، وظهرت التاء لكون الساق مؤنثًا سماعيًا؛ لأن المكرر من أعضاء الآدمي مؤنث، وإنما صغرت لأن الغالب على سوق الحبشة الدقة والخموشة، كذا قالوا، والظاهر من اللفظ أن ذلك المتخرب يكون صغير الساقين ودقيقهما من بين الحبشة، ولعله يكون أدقهما ممن عداه منهم.
2722 -
[8](ابن عباس) قوله: (كأني به) أي: كأني ملتبس بمخرِّب الكعبة، أي: كأني انظر إليه، وهو الآخر (1) عندي، و (أسود) بالنصب، وكذا (أفحج) بتقديم
(1) كذا في (ع)، وفي (د):"وهو خاص"، والظاهر:"وهو حاضر" كما يظهر من عبارة "أشعة اللمعات" بالفارسية (2/ 409) ولفظه: "ومي بينم أو را وو حاضر است نزد من".