الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سيرته
رحمه الله
-
كان [الملك الظاهر] في أول أمره عنده بطش شديد، وإقدام على سفك الدماء، ثم إنه قصر عن ذلك في آخر أيامه.
وكان حازما، عادلا، حسن السياسة، محبوبا عند رعيته، شهما، متيقظا، ضمّ شمل البيت الصلاحى لما استولى عمّه على الممالك، وأحسن إليهم، ولولاه كان تفرّق الشمل.
وكان محسنا إلى رعيته وأمرائه وأكابر دولته، أيّهم مات أقام ولده - ولو كان صغيرا - مقامه، وسلك في ذلك مسلك والده - رحمهما الله - وسلك مثل ذلك ولده الملك العزيز بعده، والملك الناصر بن الملك العزيز رحمهم الله أجمعين (1) وقدّس أرواحهم.
وكان ذكيا، فطنا، حسن النادرة؛ ومما يروى في ذلك: أن شرف الدين راجح [الحلىّ](2) بن إسماعيل الشاعر كان عنده ليلة ينادمه، فأخذ الملك الظاهر في مماجنته والعبث به.
وكان الحلّى قد سكر، فحرد من عبث الملك الظاهر به، فقال متهددا له بالهجو:«أنظم؟» .
(1) النص في (س) مختلف اختلافا كبيرا، وهو هناك:«وأنهم لما مات أقاموا ولده الملك العزيز مقامه، وكان صغيرا، فلما كبر سلك مسلك والده رحمه الله وكان الملك الظاهر قد سلك مسلك أبيه الملك الناصر صلاح الدين رحمهم الله أجمعين» .
(2)
ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).
فأشار الملك الظاهر بيده إلى السيف وقال في الحال: «إن نظمت يا حلّى، فأنا أنثر» .
وحكى أن الحلّى رأى على الملك الظاهر ليلة فروة أعجبته، فقال لبعض الحاضرين:«ما تقولون فيمن يأخذها منه؟» .
ثم أصبح ودخل عليه، وأنشده:
يا ملك الأرض الذى ذكره
…
له مذاق في فمى يعذب (67 ب)
ومن إذا كرّرت أوصافه
…
صحّت لى السّكرة والمطرب
لله هذا السؤدد المعتلى
…
والحسب الوضّاح والمنصب
والخلق العذب الشهىّ الذى
…
يكاد من رقّته يشرب
فداك أملاك مواعيدهم
…
بوارق أصدقها خلّب
إن وعدوا مانوا، أو استؤمنوا
…
خانوا، وإن هم سئلوا قطّبوا
فدونهم في بخلهم ما در
…
ودون من يرجوهم أشعب
رأيت في بارحتى بعد ما
…
مضيت والصهباء بى تلعب
والليل قد أبهج جلبابه
…
والشّهب قد غصّ بها المغرب
والنوم مستول على مقلة
…
مرآك من تهويمها أطيب
أنّك قد ألبستنى فروة
…
ذات غشاء ردنه مذهب
فقمت في وقتى فصادفتها
…
مشرّفا منى بها المنكب
فقلت: سبحان الذى خصّه
…
بمكرمات أصلها منجب
حتى إلى النوّام يسرى الندى
…
منه تعالى جدّه الأغلب
فهذه الرّويا وتأويلها
…
له بيان عنك ما يحجب
فقال له الملك الظاهر: «أضغاث أحلام يا حلّى» .
فأجابه في الوقت:
والله ما حدثنى خاطرى
…
إلا بظنّ فيك ما يكذب
فرمى بالفروة إليه، وأمر له (1) بثلاثمائة درهم ثمن بقيار (2).
وحكى أن مهذب الدين أبا المحاسن ماجد بن محمد بن القيسرانى كتب إلى الملك الظاهر أبياتا أولها:
أما وضجيج (3) قهقهة القنانى
…
وأصوات المثالث والمثانى
لقد أضحى الشام يتيه عجبا
…
بملك ماله في الأرض ثانى
فلما وقف الملك الظاهر عليها كتب في جوابها:
طلبنا الدرّ من بحر المعانى
…
وعذب اللفظ من عضب اللسان
وهل تجنى ثمار الفضل إلا
…
فروع أصلها حلو المجانى
(68 ا)
ولا عجب أن استسقيت غيثا
…
أو (4) استسقيت منطلق العنان
وأنت السابق الغايات فضلا
…
إذا ما قصّرت خيل الرّهان
(1)(ك): «وأعطاه ثلاثمائة درهم» .
(2)
الأصل: «مقبار، وقد صححت بعد مراجعة (Dozy : Supp .Dict .Arab) حيث عرفها بأنها نوع من العمامة السكيرة التي كان يلبسها الوزراء والقضاة والكتاب؛ وذكر الدكتور محمد مصطفى زيادة في تعليقات على (السلوك ج 1، ص 55) أنها كلمة فارسية؛ ومن معانيها: سجاد سوداء مصنوعة من وبر الجمل» وليس هذا المعنى هو المقصود هنا بل أصح منه منه المعنى الأول.
(3)
الأصل: «وصحيح» ، والتصحيح عن (ك).
(4)
(ك): «لو»
فأهلا، ثم أهلا، ثم أهلا
…
بما أرسلت من سحر البيان
ولما مات الملك الظاهر عمل العزاء له ثلاثة أيام.
وفى اليوم الثالث قام شرف الدين الحلّى وأنشد مرثية في الملك الظاهر، مطلعها:
سل الخطب إن أصغى إلى من يعاتبه (1)
…
بمن علقت أنيابه ومخالبه
نشدتك عاتبه على نائباته
…
وإن كان نابى السمع عمّن يعاتبه
ومنها:
أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا
…
أما فيكم من مخبر أين صاحبه؟
ومنها:
فإن يك نور من شهابك قد خفا
…
فيا طالما جلّى دجى الليل ثاقبه
وقد لاح بالملك العزيز محمد
…
صباح هدى كنّا قديما نراقبه
فتى لم يفته من أبيه وجدّه
…
أب ثم جدّ غالب من يغالبه
ومنها ما يخاطب به الملك العزيز وأخاه الملك الصالح.
أيمكث بالشهباء عبد أبيكما
…
ومادحه أم تستقل ركائبه
فذكر أن الأتابك شهاب الدين لما سمع هذا البيت، قال: قولوا له:
«يرحل فلا حاجة لنا إليه، فإنا لا نعطى الشعراء شيئا» .
فقال الحلّى قصيدة مطلعها:
منع التأسّف قلبى المتبولا
…
أن يستطيع إلى السّلو سبيلا
(1)(ك) و (س): «يخاطبه» .
ومنها:
يا دهر قد أسرفت فيما ساءنى
…
عمدا، فخفّف من أذاك قليلا
ألبستنى ثوب الأسى، وسلبتنى
…
عزّا عدمت له العزاء ذليلا
وضعفت من نكبات صرفك بعد ما
…
قد كنت جلدا للخطوب حمولا
(68 ب)
غازى بن يوسف: لا وحقّك ما خبت
…
نارى ولا نقع البكاء غليلا
أبقيت لى من بعد فقدك أنة
…
تفرى الضلوع ورنة وعويلا
يا للرجال لنائبات غادرت
…
[بالغدر](1) سيف تصبّرى مفلولا
مالى أرى الإيوان أصبح بابه
…
قفرا، وكان جنابه مأهولا
فإن اكتسى ذلاّ، فكم قد ذلّلت
…
للسائلين قطوفه تذليلا
ومنها:
يا تاركى صفر اليدين مكابدا
…
للدّين، مهجور الفناء ضئيلا
منذا أؤمّل في الورى لمطالبى؟
…
هيهات بعدك أرتجى مأمولا!
أأظلّ أنتجع الملوك مرجّيا
…
منهم كريما تارة وبخيلا
حسبى حمى الملك العزيز، فإننى
…
لا أبتغى ما عشت عنه بديلا
ملك يلوح على أسرّة (2) وجهه
…
بشر يبشّر أن أنال السّولا
والصّالح الملك المؤمّل كافل
…
لى خصب ربعى، إن شكوت محولا
لا خاب لى في أحمد ومحمد
…
أمل رجا أن ينعما وينيلا
(1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك) و (س).
(2)
الأصل: «الأسرة» ؛ والتصحيح عن (س).
مع أنّ آمالى المصرّد شربها
…
أمّت فراتا للنوال ونيلا
أمّت شهاب الدين ينبوع الجدى
…
مروى العدى، محيى الندى طغريلا
فلم يؤثر ذلك شيئا عند الأتابك شهاب الدين، وأمر بقطع ما كان للحلّى وفارق حلب، وسار إلى الملك الأشرف بن الملك العادل، فحظى عنده.
ذكر تمليك (1)
الملك العزيز بن الملك الظاهر حلب
ولما رجع الملك العزيز وأخوه الملك الصالح [وابن عمهما الملك المنصور](2) إلى القلعة، خرج أولاد الملك الناصر صلاح الدين، وأكابر الدولة، رجّالة إلى دار العدل، ووصل في ذلك الوقت القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله فحضر مع الجماعة، وأخذوا في قراءة القرآن.
فقال القاضى بهاء الدين: «نحن إلى الاشتغال بغير العزاء أحوج» فصرف الناس، وأقبلوا على المشورة (69 ا) وترتيب الأمور.
قال القاضى بهاء الدين رحمه الله:
«لما انصرفت من مصر راجعا إلى حلب مررت في طريقى بنابلس وبها الملك المعظم، واجتمعت به، وذكرت له الفصول التي أنهيتها إلى أبيه، وإجابته إليها، ففرح الملك المعظم بذلك وسرّ به.
ثم فارقته متوجها إلى حلب، فلما وصلت إلى حماة خرج إلىّ صاحبها الملك
(1)(ك): «تملك» .
(2)
ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).
المنصور، فعرّفته ما جرى، فحكى إلى المنصور اشتداد مرض الملك الظاهر رحمه الله.
فلما وصلت إلى حلب وجدته قد مات، فصعدت إلى القلعة، وحضرت تربته (1)، وترحمت عليه وأنشدت:
أين الوجوه أحبها
…
وأود لو أنى فداها؟
ثم اجتمعت بالجماعة، ووقع الاتفاق معهم على ترتيب الملك العزيز غياث الدين محمد في الملك موضع والده» (2).
وكان الوزير ابن أبى يعلى - وزير الملك الظاهر - مستوليا على الأمور كلها في الأيام الظاهرية، إلى أن وصل القاضى بهاء الدين، فاجتمع القاضى بهاء الدين بالأتابك شهاب الدين، وقرّر معه صرف الوزير عن النظر في الأمور، واتفق معه أن الجماعة يجتمعون، ويتشاورون فيما يقررونه من قواعد المملكة، وأن الأمر كله يكون معذوقا بشهاب الدين، فاجتمعوا بدار العدل، واتفقت آراؤهم كلهم على أن يكون الملك المنصور بن الملك العزيز أتابك العسكر، وأمر الإقطاع إليه، وحلفوا على ذلك.
وركب الملك المنصور، والأمراء كلهم في خدمته.
ونزل الملك العزيز، وأخوه الملك الصالح، وجلسا في دار العدل،
(1) س: «وحضرت العزاء» .
(2)
هذا قول مروى عن المؤرخ بهاء الدين بن شداد، والمعروف أن ابن شداد كتب كتابا واحدا في التاريخ هو «السيرة اليوسفية» أي سيرة صلاح الدين. ولم يعرف أنه أرخ للفترة التالية لعصر صلاح الدين. وأرجح أن هذا القول رواه أحد المؤرخين الذين أرخوا لهذه الفترة ثم نقله عنه ابن واصل.
و [جلس](1) الملك العزيز في منصب أبيه، وإلى جانبه الملك الصالح، وابن عمهما الملك المنصور إلى جانبهما.
ثم اضطربت الأمور، ولم يرض أولاد الملك الناصر صلاح الدين بولاية ابن أخيهم الملك المنصور.
ووصل رسول من جهة السلطان عز الدين كيكاوس - صاحب بلاد الروم - وكان معسكرا - كما قدمنا ذكره - بالقرب من البلاد، منتظرا وصول الملك الظاهر إليه، فجاءهم (2) رسوله معزيا به، ومشيرا عليهم بالاتفاق معه، وأن يرتب الملك الأفضل بن الملك الناصر - صاحب سميساط - أتابك العسكر، فإنه أكبر أولاد صلاح الدين، وعم الملك العزيز، وأولى الناس بتربيته، وحفظ ملكه؛ (69 ب) فمال إلى هذا الرأى الأمراء المصريون، مثل مبارز الدين يوسف بن خطلخ، ومبارز الدين سنقر الحلبى، و [جمال الدين أحمد](3) ابن أبى ذكرى، وغيرهم؛ وقالوا:
وأنكر القاضى بهاء الدين، وعلم الدين بن سيف الدين، وسيف الدين بن قلج هذا الرأى، وقالوا:
«إن في هذا من الخطر ما لا يخفى على عاقل، لأن الملك العادل ملك عظيم،
(1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).
(2)
(ك): «فجهز» .
(3)
ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).
صاحب الديار المصرية والشرق، ومعظم الشام [واليمن](1)، فإن كانت الغلبة له انتزع الملك من أيدينا، وإن كانت الغلبة للملك الأفضل لم نأمن أن يتغلب على ابن أخيه الملك العزيز، وينتزع الملك منه، ويستقل به كما فعل الملك العادل بالملك المنصور بن الملك العزيز؛ والملك العادل فقد حلف للملك الظاهر، ولابنه الملك العزيز من بعده، وهو ابن بنته، وابنته بقلعة حلب، ونحن نطالبه بالوفاء بالعهد، وهو يذبّ عن حلب كما يذبّ عن غيرها من ممالكه، وأمور الخزائن بالقلعة راجعة إلى شهاب الدين طغريل، وقد رتّبه الملك الظاهر بالقلعة، وجعل أمرها إليه، والرأى أن تكون الأمور جميعها مفوضة إليه».
فانفق رأيهم كلهم على هذا.
وعملت نسخة يمين حلف عليها جماعة الأمراء والمقدمين بالبلد، مضمونها:
ثم أبعد الوزير ابن أبى يعلى، وعزل عن الوزارة.
وكان تمام استقرار هذا الأمر في أواخر شعبان من هذه السنة.
وفى رمضان سافر ابن أبى يعلى عن حلب [إلى دمشق، وأقام بها إلى أن مات](2)، واستقل الأتابك شهاب الدين في جميع الأمور، وانتظمت به أحسن انتظام، وقام بترتيب البلاد والقلاع، وتفريق الأموال والإقطاع، ولا يخرج في ذلك كله عن رأى القاضى بهاء الدين، وسيف الدين بن علم الدين، وسيف الدين بن قلج.
(1) ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك).
(2)
ما بين الحاصرتين زيادة عن (س).