الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(25)
خطاب مرسل من السلطان صلاح الدين إلى أخيه سيف الإسلام - صاحب اليمن - يستقدمه إليه، معاونا له على قتال الفرنج، ويخبره بما وقع له من الفتوحات في سنة أربع وثمانين وخمسمائة
عن: (القلقشندى: صبح الأعشى ج 7 ص 340 - 344.
ج 7 س 23 - 27)
أصدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس، ومما تجدّد بحضرتنا فتوح «كوكب» وهى كرسىّ الإستبارية ودار كفرهم، ومستقرّ صاحب أمرهم، وموضع سلاحهم وذخرهم، وكان بمجمع الطّرق قاعدا، ولملتقى السبل راصدا؛ فتعلّقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت، وسلكت الطرق فيها وأمّنت، وعمّرت بلادها وسكنت؛ ولم يبق في هذا الجانب إلا «صور» ، ولولا أنّ البحر ينجدها والمراكب تردها، لكان قيادها قد أمكن، وجماحها قد أذعن؛ وما هم بحمد الله في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم، بل هم أسارى وإن كانوا طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء؛ قال الله عز وجل:({فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}) ولكل امرى أجل لا بدّ أن يصدقه غائبه، وأمل لا بدّ أن يكذبه خائبه.
وكان نزولنا على «كوكب» بعد أن فتحنا «صفد» بلد الدّيويّة ومعقلهم، ومشتغلهم وعملهم، ومحلّهم الأحصن ومنزلهم؛ وبعد أن فتحنا
«الكرك» وحصونه، والمجلس السيفى - أسماه الله - أعلم بما كان على الإسلام من مئونته المثقله، وقضيّته المشكلة وعلّته المعضله؛ وأن الفرنج - لعنهم الله - كانوا يقعدون منه مقاعد للسّمع، ويتبوّءون منه مواضع للنّفع؛ ويحولون بين قات وراكبها، فيذللّون الأرض بما كان منه ثقلا على مناكبها. والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشدّ من بلاد الحرمين؛ فكلّها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كان ترامى ولا ترام، وتسامى ولا تسام؛ وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجّت النّصال؛ والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة الإسلام. وإن بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما فادخلوها بسلام.
وكان نزولنا على «كوكب» والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه، والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسو الجبال عمائمها البيض؛ والأودية قد عجّت بمائها، وفاضت عند امتلائها؛ وشمخت أنوفها سيولا، فخرقت الأرض وبلغت الجبال طولا؛ والأوحال قد اعتقلت الطّرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات؛ فتجشّمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدوّ والزّمان وقد يحرز الحظّ المكاثر؛ وعلم الله النيّة فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فأعان على حملها؛ ونزلنا من رءوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من نقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها {وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.}
والحمد لله الذى ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذى هو سيفه وسيف الإسلام الذى هو أخونا الطّيب على الخبيث، فمدح السيف ينقسم على حدّيه، ومدح الكريم يتعدّى إلى يديه؛ والآن فالمجلس
- أسماه الله - يعلم أنّ الفرنج لا يسلون عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا؛ فإنّهم - خذلهم الله - أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى؛ ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كلّ سفينة غصبا، ويطمع في كلّ مدينة كسبا، ويد الله فوق أيديهم، والله محيط بأقر بيهم وأبعديهم؛ و {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً.} ({لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً.}
وما هم إلا كلاب قد تعاوت، وشياطين قد تغاوت، وإن لم يقذفوا من كلّ جانب دحورا، ويتبعوا بكلّ شهاب ثاقب مدحورا؛ استأسدوا واستكلبوا، وتألّبوا وجلّبوا وأجلبوا، وحاربوا، وخرّبوا؛ وكانوا لباطلهم الدّاحض، أنصر منّا لحقنا الناهض؛ وفى ضلالهم الفاضح، أبصر منّا لهدانا الواضح؛ ولله درّ جرير حيث يقول:
إنّ الكريمة ينصر الكرم ابنها
…
وابن اللّئيمة للّئام نصور
فالبدار إلى النجدة البدار، والمسارعة إلى الجنّة فإنها لن تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النار، والهمّة الهمّة فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار، والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار.
وما هى إلا نهضة تورث العلا
…
ليومك ما حنّت روازم نيب
ونحن في هذه السنة - إن شاء الله تعالى - ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفّر - أظفره الله - على طرابلس؛ ويستقرّ الرّكاب العادلىّ - أعلاه الله - بمصر فإنها مذكورة عند العدوّ - خذله الله - بأنها تطرق، وأنّ الطلب على الشام ومصر تفرّق؛ ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفى - أسماء الله - بحرا في بلاد الساحل يزخر سلاحا، ويجرّد سيفا يكون على ما فتحناه قفلا ولما لم يفتح بعد مفتاحا؛ فإنه ليس لأحد ما للأخ
من سمعة لها في كل مسمع سمعه، وفى كلّ روع روعه، وفى كل محضر محضر، وفى كل مسجد منبر، وفى كل مشهد مخبر؛ فما يدعى العظيم إلا للعظيم، ولا يرجى لموقف الصبر الكريم إلا الكريم؛ والأقدار ماضيه، وبمشيئة الله جاريه؛ فإن يشاء الله ينصر على العدوّ المضعّف، بالعدد الأضعف؛ ويوصّل إلى الجوهر الأعلى، بالعرض الأدنى؛ فإنّا لا نرتاب بأنّ الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرّقها؛ وأنّ العدوّ إن خرج من داره بطرا، ودخل إلى دارنا كان فيها جزرا، وما بقى إن شاء الله تعالى إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها، وإنما نؤثر أن لا تنطوى صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرّشد خاوية من عزمه؛ ونؤثر أن يساهم آل أيوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر؛ فو الله إنّا على أن نعطيه عطايا الأخرة الفاخره، أشدّ منّا حرصا على أن نعطيه عطايا الدنيا القاصره، وإنّا لا يسرنّا أن ينقضى عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير الكفء المناظر؛ ولا شكّ أنّ سيفه لو اتّصل بلسان ناطق وفم، لقال مادمت هناك فلست ثمّ؛ وما هو محمول على خطّة يخافها، ولا متكلّف قضية بحكمنا يعافها؛ والذى بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقّه ونستصغره؛ وما ناولناه لفتح أرضه السّلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النّجاح؛ إلا على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منّا أنه لا يقعد عنا إذا قامت الحرب بنفسه وماله، ولا نكن به ظنّا أحسن منه فعلا، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلا أن لا نراه لنصرنا أهلا، وليستشر أهل الرشاد فإنهم لا يألونه حقّا واستنهاضا، وليعص أهل الغواية فإنهم إنما يتغالون به لمصالحهم أغراضا؛ ومن بيته يظعن وإلى بيته يقفل، وهو يجيبنا جواب مثله لمثلنا، وينوى في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نيّة جمع شملنا؛ ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله
عزمة عازم؛ ولا يستفت فيها فوت طالب، ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ فإنما هى سفرة قاصدة، وزجرة واحدة؛ فإذا هو قد بيّض الصحيفة والوجه والذّكر والسّمعة، ودان الله أحسن دين، ولا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرّجعة، وليتدبّر ما كتبناه، وليتفهّم ما أردناه؛ وليقدّم الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة، وليغضب لله ولرسوله ولدينه ولأخيه، فإنها مكان الاستغضاب والاستئارة، وليحضر حتى يشاهد أولاد أخيه، يستشعرون لفرقته غمّا، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أنّ لهم مع عمّهم عمّا، والله سبحانه يلهمه توفيقا، ويسلك به إليه طريقا، وينجدنا به سيفا لرقبة الكفر ممزقا، ودمه مريقا، ويجعله في مضمار الطاعات سابقا لا مسبوقا. إن شاء الله تعالى.