الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعنده بدمشق جماعة كثيرة من أمراء الدولة، وعند الملك العزيز بمصر (1) جمهور العساكر من الصلاحية، والأسدية، والأكراد، وهو أمكن من الملك الأفضل لعظم الديار المصرية وكثرة مغلاّتها.
ذكر المراسلة إلى الديوان العزيز
(2 ا) ولما توفى السلطان رحمه الله، كتب الملك الأفضل إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بالانشاء العمارى (2) منه:
«أصدر العبد هذه الخدمة وصدره مشروح بالولاء، وقلبه معمور بالصفاء، ويده مرفوعة إلى السماء، للابتهال بالدعاء، ولسانه ناطق بشكر النعماء، وجنانه ثابت بين المهابة والمحبة على الخوف والرجاء، وطرفه مغض من الحياء، وهو للأرض مقبّل، وللغرض متقبّل، وهو يمتّ (3) بما قدّمه وأسلفه سلفه (4) من الخدمات، وذخره ذخر الأقوات لهذه الأوقات، وقد أحاطت العلوم الشريفة بأن الوالد السعيد، الشهيد (5) الشديد السّديد، المبيد للشرك (6) المبيد، لم يزل أيام حياته، وإلى ساعة وفاته، مستقيما على جدد الجد، مستنيما (7) في صون فريضة الجهاد إلى بذل الجهد؛ ومصر - بل الأمصار - باجتهاده في الجهاد شاهدة، والأنجاد والأغوار في نظر عزمه واحدة، والبيت المقدّس من فتوحاته،
(1) هذا اللفظ ساقط في (ك).
(2)
أورد هذه الرسالة أبو شامة في (الروضتين، ج 2، ص 225) نقلا عن العماد.
(3)
كذا في الأصل وفى الرضتين، وفى (ك):«يمد» .
(4)
هذا اللفظ غير موجود في نص الرسالة الذى أورده صاحب الروضتين.
(5)
أضيف هذا اللفظ عن نص الروضتين.
(6)
في (ك): «المثبر الشك» .
(7)
النص في الروضتين: «مستليما» .
والملك العقيم من نتائح عزماته. وهو الذى ملك ملوك الشّرك وغلّ أعناقها، وأسر طواغيت الكفر وشدّ خناقها، وقمع عبدة الصلبان وقصم (1) أصلابها، وجمع كلمة الإيمان وعصم جنابها، ونظم أسبابها، وسدّ الثغور، وسدّد الأمور، وقبض وعدله مبسوط، وأمره (2) محوط، ووزره محطوط، وعمله بالصلاح (2) منوط، وما خرج من الدنيا إلا وهو في حكم الطاعة الإمامية داخل، وبمتجرها الرابح إلى دار المقامة راحل، ولم تكن له وصيّة إلا بالاستمرار على جادّتها، والاستكثار من مادتها، وإن مضى الوالد على طاعة إمامه، فالمماليك - أولاده وأخوته (3) - في مقامه».
ثم كتب إليه كتابا (4) آخر بالانشاء العمارى منه:
«أصدر العبد هذه الخدمة ومطالع عبوديته مشرقة الأنوار، ومشارع موالاته صافية عن الأكدار، ويد ابتهاله بالضراعة مبسوطة، وهمة اتصاله بالطاعة منوطة، وعين استكانته لمهابة تلك الجلالة مطرقة، وقدم مناصحته من صحته في نهج النجح متطرقة، وبصيرة هدايته على الثبات قويّه (2 ب) وسريرة ولايته من ورد المبرّات رويّة، وزناد رويّته بسناء المخالصة والمصافاة وريّة.
قد سبقت مطالعته بالحادثة التي فجأت وفجعت، والنابية التي راعت وصدّعت، من انتقال والده مملوك الدار العزيزة إلى جوار رحمة الله ورضوان
(1) النص في الروضتين: «وقصع» .
(2)
هذه الجملة ساقطة من نسخة (ك)
(3)
الأصل: «وأخوه» ، والتصحيح عن (ك).
(4)
انفرد ابن واصل بايراد هذه الرسالة، ولا وجود لها في كتاب الروضتين أو غيره من المراجع المتداولة المعروفة.
رضوانه، وجنات جنانه وغرفات (1) غفرانه. ولقد أسعده الله لما توفّاه على طاعة أمير المؤمنين، وقد عرفت مقاماته مدة حياته في إحياء فروض الجهاد وسننه، والجرى في إعلاء منار الدولة القاهرة على جدد الجدّ وسننه، ولولا اعتصام العبد بطاعة الدار العزيزة لكادت مطالعه تظلم، ومطالبه لا تلتئم، وعقود مناجحه لا تنتظم، لكن بركة استمساكه بالعبودية شملت، ومقاصده بسبب الاعتزاز ونسب الاعتزاء إليها كملت، والكلمة على الطاعة اتحدت، والمظافرة من الجماعة تمهّدت، وانتظر المملوك ما يصله من الأمثلة (2) الشريفة المشرّفة، والإجابة المسعدة المسعفة، فطال انتظاره، وأبطأ عليه من ليل أمله من صبح النجاح إسفاره، فتراجمت به ظنونه، وتزاحمت عليه شجونه، ولا شك أن مهام الديوان [العزيز](3) كثيرة، وأن آمال رجاء الرجال بظل فضله مستجيرة، ولكنه رجاء من عوارف الباب الشريف الذى ليس بمرتجّ لمرتج (4)، وأمل من مذاهب مواهبه التي منهج جدّتها وحدّها غير منهج، أنه إذا ازدحمت الآمال على الديوان، وتنافست في تلقى نفائس الإحسان، قدّم أمر العبد، وعجّل نفع أوامه من أوامره بالورد العد».
وأرسل الملك الأفضل القاضى ضياء الدين أبا الفضائل القسم بن يحيى
(1) في (ك 433): «عرفان» .
(2)
المثال (والجمع مثالات وأمثلة) والمقصود به هنا التقليد الذى كان يصدر من الخليفة العباسى إلى أحد ملوك الأيوبيين باقراره على ملكه، أما المثال في العصر المملوكى فهو مصطلح معناه الورقة التي كانت تخرج من ديوان الجيش إيذانا باعطاء أحد المماليك إقطاعا من الإقطاعات الحالية، فاذا وقّع السلطان على المثال بالموافقه أرسل إلى ديوان النظر لتسجيله وحفظه، ويكتب بذلك «مربعة» فيها اسم المقطع ورتبته، ثم ترسل المربعة إلى ديوان الإنشاء حيث يكتب منشور الإقطاع؛ أنظر:(القلقشندى: صبح الأعشى، ج 13، ص 153).
(3)
ما بين الحاصرتين زيادة عن (ك 433).
(4)
هذا اللفظ ساقط من (ك).
ابن عبد الله بن الشهرزورى رسولا إلى الديوان العزيز، وبعث معه عدد والده وملابسه وخيله، وأضاف إلى ذلك من الهدايا النفيسة ما عزّ وجوده وقوّم بآلاف، وأضاف إلى ذلك أنواعا من الطيب والألطاف، ونساء بارعات في الحسن من السّبى (1).
وكان القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله لما توفى السلطان بدمشق كما ذكرنا، فلما توفى السلطان اعتمد عليه الملك الأفضل غاية الاعتماد واحترمه غاية الاحترام، وكان يشاوره في جليل الأمور ودقيقها. فورد (3 ا) كتاب الملك الظاهر - صاحب حلب - إلى أخيه الملك الأفضل يرغب إليه في أن يتحفه بالقاضى بهاء الدين ليكون عنده ويتيمن برأيه، فأجابه الملك الأفضل إلى ذلك وسيّره إليه، فوصل القاضى بهاء الدين إلى حلب، فأعظمه الملك الظاهر وفوّض إليه قضاء بلاده، وصار أقرب الناس إليه منزلة، ولم تزل منزلته عنده عظيمة وله الإقطاع الجليل والحرمة التي لم يصل إليها أحد من المعممين، إلى أن توفى الملك الظاهر رحمه الله وولى ولده الملك العزيز، وقام بأتابكيته الأتابك شهاب الدين طغريل الخادم، فازدادت منزلة القاضى بهاء الدين علوا وعظمة، وكان الملك العزيز ينزل بنفسه إليه في كل وقت، ويأخذ رأيه في المهمات العظيمة، ولم تزل له هذه المنزلة العظيمة، إلى أن توفى في أيام الملك العزيز رحمه الله وقد أناف على التسعين سنة.
(1) ذكر صاحب الروضتين (ج 2، ص 225) - نقلا عن ابن القادسى - ثبتا بمفردات هذه الهدية، ننقله هنا لأهميته، قال:«وفى يوم الثلاثاء مستهل رمضان حمل ابن الشهرزورى ما كان أصحبه الأفضل من حمل الشام إلى الديوان العزيز، وهو صليب الصلبوت الذى كان قد أخذه والده، وذكر أنه ذهب يزيد على العشرين رطلا، مرصعا بالجواهر، ومعه خادم مختص بخدمته؛ وحمل فرس أبيه، وزرديته، وخوذته - وكانت صفراء مذهبة -، ودبوس حديد، وسيف، وأربع زرديات؛ وقالوا: «هذه تركته، وبها كان يقاتل» ؛ وتحفا جمة من الثياب؛ وحمل في جملة التحف أربع جوار من بنات ملوك الروم، فيهن ابنة بارزان، وبنت صاحب جبلة».
وقصدت خدمته (1) بحلب سنة سبع وعشرين وستمائة، وحضرت مجلسه واستفدت منه، وأقمت بمدرسته (2) التي أنشأها إلى جانب داره رحمه الله نحو سنة وكسر.
ولما وصل القاضى بهاء الدين إلى خدمة الملك الظاهر، وسيّره رسولا إلى الإمام الناصر لدين الله، وأصحبه من الهدايا أضعاف ما سيّره أخوه الملك الأفضل، ورتّبه في أبهة جميلة، وعدة من الجند أسنى لهم العطايا، وأعطى القاضى بهاء الدين ألفى دينار وخزانة من خلع وثياب ومصوغات ذهب وفضة، وقال:
«أنفق منها واخلع» . ومضى بهاء الدين في مضارب وخيم وحجّاب وحشم، فأبلغ الرسالة، وعاد إلى صاحبه مكرّما.
وعاد القاضى ضياء الدين إلى الملك الأفضل بعد إبلاغ رسالته مكرّما محترما.
(1) هذه إشارة لها أهميتها يذكر فيها المؤلف أنه تتلمذ على بهاء الدين بن شداد ودرس عليه في مدينة حلب سنة 627 هـ.
(2)
المدرسة الصاحبية أو مدرسة القاضى بهاء الدين بن شداد بحلب عرّف بها (محمد كرد على: خطط الشام، ج 6، ص 105) قال: «أنشأها القاضى بهاء الدين يوسف المعروف بابى شداد، قال ابن خلكان: إن حلب كانت قبل أن يتصل ابن شداد بخدمة الملك الظاهر قليلة المدارس، وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى بترتيب أمورها، وجمع الفقهاء بها، وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة، وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعا جيدا يحصل منه جملة مستكثرة، فعمر مدرسة بالقرب من باب العراق قبالة مدرسة نور الدين محمود بن زنكى للشافعية، وذلك في سنة إحدى وستمائة، ثم عمّر في جوارها دارا للحديث، وجعل بين المكانين تربة يدفن فيها، ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد وحصلت بها، الاستفادة والاشتغال، وكثر الجمع بها؛ وموقع هذه المدرسة في الزاوية الغربية من الجنينة المعروفة الآن بجنينة الفريق شرقى محلة السفاحية، ولم يبق منها ولا من دار الحديث سوى حجر مكتوب، وقد كانتا عامرتين في القرن العاشر كما في أعلام النبلاء» انظر أيضا: (ابن الشحنة: الدر المنتخب في تاريخ مملكه حلب، ص 111).