الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
خطاب بقلم القاضى الفاضل، مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة المستضىء بنور الله ببغداد، يبشره بفتح بلد من بلاد النوبة، والنّصرة عليها
عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 506 - 511)
{(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ):} {(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ:} ({فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ).}
وصلاة يتبعها تسليم، وكأس يمزجها تسنيم. وذكر من الله سبحانه في الملأ الأعلى ورحمة الله وبركاته معلومة من النشأة الأولى على مولانا الإمام «المستضىء بالله» المستضاء بأنواره، المستضاف بداره، الداعى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، الراعى للخلق كما يرعى النسيم النسيم، العامّ فضله، التامّ عدله، المطروق مورد فنائه، المصدوق في مورد ثنائه؛ المحقوق من كل ولى بولائه، ابن السادة الغرّ، والقادة الزهر. والذادة الحمس، والشادة للحق على الأسّ، سقاة الكوثر وزمزم والسحاب، وولاة الموسم والموقف والكتاب، والموصول الأنساب [يوم] إذا نفخ في الصور فلا أنساب، والصابرون على حساب أنفسهم فهم الذين يؤتون أجرهم بغير حساب.
مملوك العتبات الشريفة وعبدها؛ ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودها، وكانت المشاهدة لأنواره العلية التي يودّها، ومن يقرن بفرض الله سبحانه فرضها، ويسابق بطاعته إلى جنة وصفها الله تعالى بقوله {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا:} يلثم وجه ترابها، ويرى على بعد دارها الأنوار التي ترى بها، ويقف لديها وقوف الخاضع، ويضع
أثقال الآثام عن ظهره منها بأشرف المواضع للواضع، ويخبت إليها إخبات الطائح الطائع، ويرجو فضلها رجاء الطامح الطامع. ولولا أن الكتاب حجاب بينه وبين المهابة التي تحول بين المرء وقلبه، والجلالة التي هو في تعظيمها على نور من ربه، لكان خاطره في قبضة الهلع أسيرا، ولانقلب إليه البصر خاسئا حسيرا، ولكن قلمه قد تشاجع، أن كان لسانه عن الإبانه قد راجع. فيقول:
إن الله قد رفع ملة الإسلام على الملل، وكفل نصرها وكفى ما كفل، وحمى ملكها وحمل، وجعل لها الأرض في أيدى المخالفين ودائع، ومكّن يده من أعناقهم فهى إما تعقد الأغلال أو تصوغ الصنائع، والحق بها قائم العمود، والسيف للكفاية لازم الغمود؛ والبشائر تمسك الصباح وتخلق الدجى، والخيل على طول ما تشتمل الوحا تنتعل الوجى، والأيام زاهرة، والآيات باهرة، وعزة أوليائها قاهرة، وذلة أعدائها ظاهرة، وعنايات الله لديها متوالية متظاهرة.
إذا تغرب اسمها يوما عن منبر أعيد إلى وطنه غدا، وإذا أوقدت نار فتنة في معصيتها أوقدت في طاعتها نار هدى.
وقد كان النيل قدما فرّت عن الفرات أبناؤه، وتحصنت غلل المؤمنين عنه فلم يتغلغل إليها ماؤه، وكادت السماء لا تعينه بمطرها، والأرض لا توشّيه بزهرها والأعناق قد تقاصر دون الراجين بدو مبعصها (1)، والقلوب قد لاذت بأستار الجدار مبعصها (1)، والأوثان منصوبة، والآيات مغصوبة، والتيجان بغير أكفائها من الهامات معصوبة، والدين أديانا، والمذكّرون بالآيات يخرون عليها صمّا وعميانا؛ والعادلون بالله قد وطّنوا ألسنة وصرحوا عقائد، والمعتدون قد أضلّوا فعالا وضلوا مقاصد، وكراسىّ خلافة الله قد ألقى عليها أجساد كانت تقعد منها مقاعد، ومنابر كلمات الله قد كاد كيدهم يأتى بنيانها من القواعد، وحرت على بنوّة النّبوة أشدّ نبوة،
(1) كذا في الأصول بهذا الرسم.
وقصرت الأيدى فلا حدّ سوط ولا حد سطوة، ثم قست قلوب {(فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)} وغرّت الأيام وما وعدت، وأوردت الهمم وما أصدرت، وطغى طوفان الطغيان ولا عاصم، وسما بناء البهتان ولا هادم، وضاقت الصدور، ورحلت بغليلها إلى القبور، وظن أن طىّ دولنهم معدوق بالنشور؛ حتى إذا جلاّها الله لوقتها، وأنجز جموع الضلال إلى ميعاد شتها، وأراهم آية معدلته ({وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها})، و ({جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ)}، ({وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}).
كانت نعمة من الله يمنها على المملوك أن أنتجبه من بين أهل أرضه، وانتخبه لإقامة ما أمات الباطل من فرضه، ويسره لما يسره من نصرة الحق وأهله، وبشره بما بشره من لواء النصر، ومدّ من ظله، وألهمه الهمة التي افترع منها بكرا، ومنحه النصرة فما يستطيع العدو صرفا ولا نصرا. مكنه من صياصيهم فحلّها، ومن دمائهم فطلّها، ومن سيوفهم ففلّها، ومن أقدامهم فاستزلها، ومن منابر دعاتهم فعجل تداعيها، ومن أنفس أعدائهم فأكثر تناعيها، وأبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، ويسر الذين كتب لهم العفو إلى منافعهم، ونثر خرزات الملك من تيجانها، وفضح على يده وبلسانه مازورته من أنسابها، وحسابها فأظهر زيف حسابها، ونقلها من ظهور أسرتها إلى بطون ترابها، وعمد إلى أهل دعوتها الذين بسقوا بسوق النخل فأعلاهم على جذوعها، وحملت قلوبهم فوف الحقد فأخرجها من أكمام طلوعها، فهل ترى لهم من باقية، أو تسمع لهم من لاغية، أو تجد إليهم من صاخية، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم أو مساكينهم، وحصدوا حصد الحشيش ثم لا تخاف سيوفهم ولا سكاكينهم، واستنزلوا من عقاب اللّوح وسجنوا في الهمّ من طول مداومة عقاب الروح؛ ثم تداركوا إلى الدرك، واشتركوا في الشرك، وأقفرت منهم عراص،
وزهدت فيهم خواص، وعلم أن ليس لله غالب، وأن ليس يفوته طالب، وأن الملك لله وحده، وأن الويل لمن تجاوز أمره وحده.
وكان المملوك ممن عطل من أوثانهم، وأبطل من أديانهم، فائزا بحسنة ينظر إلى حسنات خليل الله صلى الله عليه وسلم في كيده الأصنام وتكسيرها، وتضليله عابديها وتكفيرها. وعمد المملوك إلى المحاضر فجمعها، وإلى المنابر فرفعها، والجمعة فأطاع من شرعها، وأسماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصلها باسمه وما قطعها، وعمومتها رضوان الله عليهم فتلاها له وآتبعها، وأشاد باسم أمير المؤمنين لتكون الصلاة جامعة، والذكرى شاملة والإمامة للجماعة شارعة، والهداية للضلالة صارعة، فعادت للملة أعياد، وأخضرت للمنبر أعواد، وأنجز للأمة ميعاد.
وبعد ذلك تحاشدت أولياء الذاهبين وتنادت، وتساعت نحو مستقر المملوك وتعادت ({وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ)} وكانوا حمية حامية من بنى حام كالجراد أرجلا، إلا أن الله أصلاها بنيرانه، وكالماء مدا إلا أن الله أغرقها بطوفانه، وكالنمل لونا وطرقا إلا أن الله حطمها بسليمانه، مع من انضم إليهم من ألفاف وأطراف، وأوشاب وأوباش: من جندى كسبه سيفه ذلّه، وطرده عن مواقف الكرام وبمحالّ الخزى أحله، ومن أرمنىّ كانوا يفزعون إلى نصرة نصرانيته، ويعتمدون منه على ابن معموديته، ومن عامى أجابهم لفرط عماه وتفريط عاميته، فملأ العيون سوادهم الأعظم، ووراءهم بأس الله الذى لا يرد عمن أجرم، فأمطرتهم السيوف مطرا كانوا غثاء لسيوله الجوارف، وعصفت بهم الأعنة عصفا كانوا هباء لهوجه العواصف ({فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ}) وعوتبت الأنفس والأرؤس ف ({قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ.})
وظلت قحاف بنى حام تحت غربان الفلا غربانا، وشوهدت ظلمات بعضها
فوق بعض أفعالا وألوانا، وصفت موارد السلطان من القذى، وطفىء ذلك الفحم فلا يجد النفاق بعده ما تتعلق به الجذى، وبلغت الغايات في كشف كل أذى، لا بضرب موعد يقال فيه إذا.
وكاتب المملوك، واسم أمير المؤمنين قد كتب سطره على جبين النقدين، وسمع لفظه من فم المنبرين بالبلدين، ومد كل منبر يدا بل يدين، فحين سمع الناس قالوا حقا ما قاله ذو اليدين، وصارت تلك الأسماء دبر الآذان ووراء الظهور، وحصلت المحبة العباسية سرا من أسرار القلوب إذا حصّل ما في الصدور، والخلائق مبايعة متابعة وافية بعهده متوافية، داخلون في الحق أفواجا، سالكون منه شرعة ومنهاجا.
والحمد لله الذى جعل أمير المؤمنين إماما لخلفه، ووارثا لأرضه ولم يذر فوق الأرض منازعا لحقه، ولا مناهبا لأرضه، وارتجع له الحق الذى كان نادّا، ورد عليه الأمر الذى لم يكن له غير الله رادا، وبلغ كل مؤمن من إعلاء كلمة الإيمان به ما كان له وادّا، وأخذ بيد انتقامه من كان عن سبيله صادّا، والإسلام قد استنار كنشأته، والزمان قد استدار كهيئته، والحق قد قرّ في نصابه، والأمر قد فر عن صوابه. فقد وفى الله القرار له بضمانه، وأخذ بيده ما روى عن ابن عمه صلى الله عليه وسلم وأصفى من لسانه.
فالحمد لله الذى صدقه وعده، وأورثه الأرض وحده، وجدد علاه وأعلى جده، وأسعد نجمه وأنجم سعده، ووعده نجحه وأنجح وعده، وأورده وصفه وأصفى ورده.
المملوك ينتظر الأمثلة ليتمثلها، والأمانة ليتحملها، والتقليدات المطاعة ليتلوها، والتشريفات الشريفة ليجلوها، والسواد ليجلى الحلك عن ضمائر المبطلين والسيف الحالى لحكمه في رقاب المعطلين، وللآراء الشريفة فصل برهانها، وفضل سلطانها، وأمرها الذى لا يخرج حين يخرج عن عز الملة وتوطيد بنيانها، وعزمها الذى يرفع حين يرفع ظلمة أدخانها. إن شاء الله تعالى.