الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(27)
خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الناصر لدين الله بخبر ملك الألمان والقتال معه، في جواب كتاب ورد عليه
عن: (القلقشندى. صبح الأعشى، ج 7، ص 126 - 130)
أدام الله ظلّ الديوان العزيز النبوىّ، الإمامىّ، الشريف الناصرىّ؛ ومدّه على الأمة ظليلا، وجعل الأنوار عليه دليلا؛ وحاطه بلطفه وتقبّل أعماله بقبول حسن وأنبتها، وأرغم أعداءه وكبتها، ومسّها بعذاب من عنده وسحتها؛ ولا زالت رايته السوداء بيضاء الخبر، محمرّة المخبر في العداة مسودّة الأثر.
ورد على الخادم ما كوتب به من الديوان العزيز رائدا في استخلاصه، مبرهنا عن اختصاصه، مطلقا في الشكر للسانه، وفى الحرب لعنانه؛ ومقتضيا لأمنيّة كان يتهيّبها، ومفيضا لمكرمة لو سمت نفسه إليها، كان يتهمها، فلله هو! من كتاب كأنّه سورة وكلّ آية منه سجدة، قابله بالخشوع كأنما قلم الكتاب القضيب وطرسه البردة؛ وتلاه على من قبله من الأولياء مسترهفا به لعزائمهم، مستجزلا به لمغانمهم؛ مستثبتا به للازمهم، مستدعيا به الخدمة للوازمهم؛ مرهفا به ظباهم في القتال، فاسحا به خطاهم يوم النّزال؛ فأثّر فيهم كالاقتداح في الزّند، وكالانبجاس من الصّلد، وكالاستلال من الغمد، فشمّر من كان قد أسبل، وانتهى من كان قد أجبل؛ وكأنّما أعطوا كتابا من الدّهر بالأمان، أو سمعوا مناديا ينادى للإيمان؛ وقالوا سمعنا
وأطعنا، وعلينا من الخدمة ما استطعنا؛ هذا مع كونهم أنضاء زحوف، وأشلاء حتوف، وضرائب سيوف؛ قد وسمت وجوههم علامات الكفاح، وأحالت غرضهم أقلام الرّماح؛ صابرين مصابرين، مكائرين مكابرين، مناضلين مناظرين؛ قد قاموا عن المسلمين بما قعد عنه سائرهم؛ ونزلوا بقارعة القراع فلا يسير عنها سائرهم؛ وسدّست كعوب الرّماح أنملهم، وأثبتوا في معترك الموت أرجلهم؛ كلّ ذلك طاعة لله ولرسوله ولخليفتهما، وإذا رموا فأصابوا، قالوا: ولكنّ الله رمى.
ومن خبر الكفّار أنهم إلى الآن، على عكاّ يمدّهم البحر بمراكب أكثر عدّة من أمواجه، ويخرج للمسلمين منهم أمرّ من أجاجه؛ قد تعاضدت ملوك الكفر على أن ينهضوا إليهم من كلّ فرقة منهم طائفة، ويقلّدوا لهم من كل قرن يعجز بالكرّة واصفه؛ فإذا قتل المسلمون واحدا في البرّ، بعث البحر عوضه ألفا، وإذا ذهب بالقتل صنف منهم، أخلف بدله صنفا؛ فالزّرع أكثر من الجداد، والثمرة أنمى من الحصاد. وهذا العدوّ المقاتل - قاتله الله - قد زرّ عليه من الخنادق أدراعا متينة، واستجنّ من الجنويات بحصون حصينة؛ مصحرا ومتمنّعا، وجاسرا ومتدرّعا، ومواصلا ومنقطعا، وكلّما أخرج رأسا قد قطعت منه رءوس، وكلّما كشف وجها كشفت من غطاء أجسادها نفوس؛ فكم من يوم أرسلوا أعنّة السوابق فذمّوا عقبى إرسالها، وكم من ساعاة فضّوا فيها أقفال الخنادق، فأفضى إليهم البلاء عند فضّ أقفالها؛ إلا أنّ عددهم الجمّ قد كاثر القتل، ورقابهم الغلب قد قطعت النّصل لشدّة ما قطعها النصل، ومن قبل الخادم من الأولياء قد أثرت المدة الطويلة والكلف الثقيلة في استطاعتهم، لا في طاعتهم، وفى أجوالهم لا في شجاعتهم؛ فالبرك قد أنضوه،
والسّلاح قد أحفوه، والدّرهم قد أفنوه، وكل من يعرفهم من أهل المعرفة، ويراهم بالعين فما هم مثل من يراهم بالصّفة؛ يناشد الله المناشدة النبويّة، في الصّيحة البدرية؛ اللهم أن تهلك هذه العصابة، ويخلص الدعاء ويرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة.
هذا والساحل قد تماسك، وما تهلك؛ وتجلّد، وما تبلّد؛ وشجّعته مواعد النّجدة الخارجة. وأسلته عن مصارع العدّة الدّارجة؛ فكيف به إذا خرج داعية الألمان، وملوك الصّلبان؛ وجموع ما وراء البحر، وحشود أجناس الكفر؟ وقد حرّم باباهم - لعنة الله عليهم وعليه - كلّ مباح واستخرج منهم كلّ مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبسهم الحداد، وحكم عليهم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، ويعيدوا القمامة. ({وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ.})
أللهم أخفر جواره، واصرف جوره، وأخلف وعده، واكسر ضمانه، وأنكصه على عقبه، وعجّل في الدنيا والآخرة منهم تبابه. وما بدأتنا به من نعمتك فلا تقطعه، وما وهبتنا من نصرك فلا تسلبه، وما سترته من عجزنا فلا تهتكه. وفى دون ما الدّين مستقبله، وعدوّه خذله الله يؤمّله؛ ما يستفرغ عزائم الرجال، ويستنفد خزائن الأموال؛ ويوجب لإمام هذه الأمة أن يحفظ عليها قبلتها، ويزيح في قتل عدوّها علّتها؛ ولولا أنّ في التصريح، ما يعود على عدالته بالتّجريح، لقال ما يبكى العين ويبكى القلوب، وتنشقّ له المرائر وتشقّ له الجيوب، ولكنّه صابر محتسب، منتظر لنصر الله مرتقب، قائم من نفسه بما يجب؛ {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي،} وها هو قد هاجر
إليك هجرة يرجوها عندك مقبولة، وولدى وقد أبرزت لعدوّك صفحات وجوههم، وهان علىّ محبوبك بمكروهى فيهم ومكروههم، ونقف عند هذا الحدّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ وإن لم يشتك الدّين إلى «ناصره» والحقّ إلى من قام بأوّله وإلى اليوم الآخر يقوم بآخره؛ فإلى من يشتكى البثّ، وعند من يتفرج بالنفث؟ ومنفعة الغوث قبل العطب، والنّجاء قبل أن يصل الحزام الطّبيين، والبلاغ قبل أن يصل السيل الزّبى.
فياعصبة محمد صلى الله عليه وسلم اخلفه في أمّته بما تطمئن به مضاجعه، ووفّه الحقّ فينا فإنّا وإنّ المسلمين عندك ودائعه، وما مثّل الخادم نفسه في هذا القول إلا بحالة من وقف بالباب ضارعا، وناجى بالقول صادعا؛ ولو رفعت عنه العوائق لهاجر، وشافه طبيب الإسلام بل مسيجه بالداء الذى خامر؛ ولو أمن عدوّ الله أن يقول فرّ لسافر، وبعد ففيه وإن عضّ الزمان بقية، وقبله وإن تدارأت الشّهّاد دريّة؛ فلا يزال قائما حتىّ ينصر أو يعذر، فلا يصل إلى حرم ذرّية أحمد صلى الله عليه وسلم ومن ذرّية أيوب واحد يذكر.
أنجز الله لأمير المؤمنين مواعد نصره! وتمم مساعدة دهره! وأصفى موارد إحسانه! وأرسى قواعد سلطانه! وحفظه وحفظ به فهو خير حافظا، ونصره ونصر على يديه فهو أقوى ناصرا، إن شاء الله تعالى.