الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(28)
نسخة العهد المكتوب به من ديوان الخلافة ببغداد إلى السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيوب - أخى السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب
-
عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج.1، ص 99 - 111)
الحمد لله الذى اطمأنت القلوب بذكره، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره، ووسعت كلّ شىء رحمته، وظهرت في كل أمر حكمته، ودلّ على وحدانيته بعجائب ما أحكمه صنعا وتدبيرا، وخلق كل شىء فقدّره تقديرا؛ ممدّ الشاكرين بنعمه التي لا تحصى عددا، وعالم الغيب الذى لا يظهر على غيبه أحدا؛ لا معقب لحكمه في الإبرام والنقض، ولا يؤده حفظ السموات والأرض؛ تعالى أن يحيط بحكمه الضمير، وجل أن يبلغ وصفه البيان والتفسير:
({لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.}
والحمد لله الذى أرسل - محمد صلى الله عليه وسلم بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ وابتعثه هاديا للخلق، وأوضح به مناهج الرشد وسبل الحق؛ واصطفاه من أشرف الأنساب وأعز القبائل، واجتباه لإيضاح البراهين والدلائل؛ وجعله لديه أعظم الشفعاء وأقرب الوسائل، فقذف صلى الله عليه وسلم بالحق على الباطل، وحمل الناس بشريعته الهادية على المحجة البيضاء والسنن العادل، حتى استقام اعوجاج كل زائغ، ورجع إلى الحق كل حائد عنه ومائل؛ وسجد لله كل شىء تتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
الكرام الأفاضل، صلاة مستمرة بالغدوات والأصائل؛ خصوصا على عمّه وصنو أبيه العباس بن عبد المطلب الذى اشتهرت مناقبه في المجامع والمحافل؛ ودرّت ببركة الاستسقاء به أخلاف السحب الهواطل، وفاز من تنصيص الرسول على عقبه في الخلافة بما لم يفز به أحد من الأوائل.
والحمد لله الذى حاز مواريث النبوة والإمامة، ووفر جزيل الأقسام من الفضل والكرامة، لعبده وخليفته، ووارث نبيّه ومحيى شريعته، الذى أحله الله عز وجل من معارج الشرف والجلال في أرفع ذروة، وأعلقه من حسن التوفيق الإلهى بأمتن عصمة وأوثق عروه؛ واستخرجه من أشرف نجار وعنصر، واختصه بأزكى منحة وأعظم مفخر؛ ونصبه للمؤمنين علما، واختاره للمسلمين إماما وحكما؛ وناط به أمر دينه الحنيف، وجعله قائما بالعدل والإنصاف بين القوى والضعيف؛ إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين؛ أبى جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين؛ ابن الإمام السعيد التقى، أبى نصر محمد الظاهر بأمر الله، ابن الإمام السعيد الوفى أبى العباس أحمد الناصر لدين الله، ابن الإمام السعيد أبى محمد المستضىء بأمر الله أمير المؤمنين، صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى آبائه الطاهرين، الأئمة المهديين؛ الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، ولقوا الله تعالى وهو عنهم راض، وهم عنه راضون.
وبعد، فبحسب ما أفاضه الله على أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وسلامه - من خلافته في الأرض، وفوضه إلى نظره المقدس في الأمور من الإبرام والنقض، وما استخلصه له من حياطة بلاده وعباده، ووكله إلى شريف نظره ومقدس اجتهاده؛ لا يزال - صلوات الله عليه - يكلأ العباد بعين الرعاية، ويسلك بهم في المصالح العامة والخاصة مذاهب الرشد وسبل
الهدايه؛ وينشر عليهم جناحى عدله وإحسانه، وينعم لهم النظر في ارتياد الأمناء والصلحاء من خلصاء أكفائه وأعوانه؛ متخيرا للاسترعاء من استحمد إليه بمشكور المساعى، وتعرف إليه في سياسة الرعايا بجميل الأسباب والدواعى؛ وسلك في مفترض الطاعة الواجبة على الخلائق قصد السبيل، وعلم منه حسن الاضطلاع في مصالح المسلمين بالعبء الثقيل، والله عز وجل يؤيد آراء أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - بالتأييد والتسديد، ويمده أبدا من أقسام التوفيق الإلهى بالموفور والمزيد؛ ويقرن عزائمه الشريفة باليمن والنجاح، ويسنى له فيما يأتى ويذر أسباب الخير والصلاح، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
ولما وفق الله تعالى نصير الدين محمد بن سيف الدين أبى بكر بن أيوب من الطاعة المشهورة، والخدم المشكورة، والحظوة في جهاد أعداء الدين بالمساعى الصالحة؛ والفوز من المراضى الشريفة الإمامية - أجلها الله تعالى - بالمغانم الجزيلة والصفقة الرابحة؛ لما وصل فيه سالف شريف الاختصاص بآنفه، وشفع تالده في تحصيل مأثور الاستخلاص بطارفه؛ واستوجب بسلوكه في الطاعة المفروضة مزيد الإكرام والتفضيل، وضرع في الإنعام عليه بمنشور شريف إمامى يسلك في اتباعه هداه والعمل بمراشده سواء الصراط وقصد السبيل - اقتضت الآراء الشريفة المقدسة - زادها الله تعالى جلالا متألق الأنوار، وقدسا يتساوى في تعظيمه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار - الإيعاز بإجابته إلى ما وجّه أمله إلى الإنافة فيه به إليه، والجذب بضبعيه إلى ذروة الاجتباء الذى تظهر أشعة أنواره الباهرة عليه؛ فقلده - على خيرة الله تعالى - الزعامة والغلات، وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والضياع والصدقات، والجوالى وسائر وجوه الجبايات، والعرض والعطاء، والنفقة في الأولياء؛ والمظالم
والحسبة في بلاده، وما يفتتحه ويستولى عليه من بلاد الفرنج الملاحين، وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده من الشاذين عن الإجماح المنعقد من المسلمين؛ و [من] يتعدى حدود الله تعالى بمخالفة من يصل (؟) من الأعمال الصالحات بولائه المفروض على الخلائق مقبولة، وطاعته ضاعف الله جلاله بطاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم موصولة؛ حيث قال عز من قال:
({يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ})
واعتمد - صلوات الله عليه وسلامه - في ذلك على حسن نظره ومدد رعايته، وألقى مقاليد التفويض إلى وفور اجتهاده وكمال سياسته؛ وخصه من هذا الإنعام الجزيل بما يبقى له على تعاقب الدهر واستمراره، ويخلد له على ممر الزمان حسن ذكره وجزيل فحاره؛ وحباه بتقليد يوطد له قواعد الممالك، ويفتح بإقليده رتاج الأبواب والمسالك؛ ويفيد قاعدته في بلاده زيادة تقرير وتمهيد، ويطير به صيته في كل قريب وبعيد، ووسمه بالملك الأجل، السيد، الكامل، المجاهد، المرابط؛ نصير الدين، ركن الإسلام، أثير الأنام، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، غازى بك محمد، بن أبى بكر، ابن أيوب، معين أمير المؤمنين، رعاية لسوابق خدمه وخدم أسلافه وآبائه، عن وفور اجتبائه، وكمال ازدلافه، وإنافة من ذروة القرب إلى محل كريم، واختصاصا له بالإحسان الذى لا يلقاه إلا من هو كما قال تعالى:({ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.}) وثوقا بصحة ديانته التي يسلك فيها سواء سبيله، وإستنامة إلى أمانته في الخدمة التي ينصح فيها لله تعالى ولرسوله، وركونا إلى [كون] الإنعام عليه موضوعا بحمد الله تعالى في أحسن موضع، واقعا به لديه في خير مستقر ومستودع.
وأمير المؤمنين - صلوات الله عليه - (لا زالت الخيرة موصوله بآرائه،
والتأييد الإلهى مقرونا بإنفاذه وإمضائه) يستمد من الله عز وجل حسن الإعانة في اصطفائه الذى اقتضاه نظره الشريف واعتماده، وأدى إليه ارتياده المقدس الإمامى واجتهاده؛ وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل.
أمره بتقوى الله تعالى التي هى الجنة الواقية، والنعمة الباقية؛ والملجأ المنيع، والعماد الرفيع؛ والذخيرة النافعة في السر والنجوى، والجذوة المقتبسة من قوله سبحانه:({وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى}) وأن يدرع بشعارها، في جميع الأقوال والأفعال، ويهتدى بأنوارها، في مشكلات الأمور والأحوال، وأن يعمل بها سرا وجهرا، ويشرح للقيام بحدودها الواجبة صدرا؛ قال الله تعالى:({وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}).
وأمره بتلاوة كتاب الله متدبرا غوامض عجائبه، سالكا سبيل الرشاد والهداية في العمل به، وأن يجعله مثالا يتبعه ويقتفيه، ودليلا يهتدى بمراشده الواضحة في أوامره ونواهيه؛ فإنه الثقل الأعظم، وسبب الله المحكم، والنور الذى يهدى به إلى التي هى أقوم؛ ضرب الله تعالى فيه لعباده جوامع الأمثال، وبين لهم بهداه الرشد والضلال، وفرق بدلائله الواضحة الحرام والحلال؛ فقال عز من قائل:({هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}). وقال تعالى:
({كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.})
وأمره بالمحافظة على مفروض الصلوات، والدخول فيها على أكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات؛ وأن يكون نظره في موضع سجوده من الأرض، وأن يمثل لنفسه في ذلك موقفه بين يدى الله تعالى يوم العرض؛ قال الله تعالى:
({قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ})، وقال تعالى:({إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً.}) وأن لا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها
الواجبة، ولا يلهو بسبب عن إقامة سنتها الذاتية؛ فإنها عماد الدين الذى نمت أعاليه، ومهاد الشرع الذى تمت قواعده ومبانيه؛ قال الله تعالى:({حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ،}) وقال سبحانه: ({إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ.})
وأمره أن يسعى إلى صلوات الجمع والأعياد، ويقوم في ذلك بما فرضه الله تعالى عليه وعلى العباد؛ وأن يتوجه إلى الجوامع والمساجد متواضعا، ويبرز إلى المصليات الضاحية في الأعياد خاشعا؛ وأن يحافظ في تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب، ويعظم باعتماد ذلك شعائر الله التي هى من تقوى القلوب، وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه، وكمال نظره وإرعائه؛ بيوت الله التي هى محال البركات، ومواطن العبادات؛ والمساجد التي تأكد في تعظيمها وإجلالها حكمه، والبيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ وأن يرتب لها من الخدم من يتبتل لإزالة أدناسها، ويتصدى لإذكاء مصابيحها في الظلام وإيناسها؛ ويقوم لها بما تحتاج إليه من أسباب الصلاح والعمارات، ويحضر إليها ما يليق من الفرش والكسوات
وأمره باتباع سنة النبى صلى الله عليه وسلم التي أوضح جددها، وثقف عليه السلام أودها؛ وأن يعتمد فيها على الأسانيد التي نقلها الثقات، والأحاديث التي صحت بالطرق السليمة والروايات؛ وأن يقتدى بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بسببها، ورغب أمته في الأخذ بها والعمل بأدبها؛ وقال الله تعالى:({وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.}) وقال سبحانه وتعالى: ({مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ.})
وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر في ثغوره، وأن يشملهم بحسن نظره
وجميل تدبيره؛ مستصلحا نياتهم بإدامة التلطف والتعهد، مستوضحا أحوالهم بمواصلة التفحص والتفقد؛ وأن يسوسهم سياسة تبعثهم على سلوك المنهج السليم، ويهديهم في انتظامها واتساقها إلى الصراط المستقيم، ويحملهم على القيام بشرائط الخدم، والتمسك منها بأقوى الأسباب وأمتن العصم؛ ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والائتلاف، ويصدهم عن موجبات التخاذل والاختلاف؛ وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم في الإعطاء والمنع، وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أسباب الخفض والرفع؛ وأن يثيب المحسن على إحسانه، ويسيل على المسىء ما وسعه العفو واحتمله الأمر ذيل صفحه وامتنانه؛ وأن يأخذ برأى ذوى التجارب منهم والحنكة، ويجتنى بمشاورتهم في الأمر ثمر الشركة؛ إذ في ذلك أمن من خطا الانفراد، وتزحزح عن مقام الزيغ والاستبداد.
وأمره بالتبتل لما يليه من البلاد، ويتصل بنواحيه من ثغور أولى الشرك والعناد؛ وأن يصرف مجامع الالتفات إليها، ويخصها بوفور الاهتمام بها والتطلع عليها؛ وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل بالإحكام والإتقان، وينتهى في أسباب مصالحها إلى غاية الوسع ونهاية الإمكان، وأن يشحنها بالميرة الكثيرة والذخائر، ويمدها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر، وأن يتخير لحراستها [من يختاره] من الأمناء التقاة، ولسدها من ينتخبه من الشجعان الكماة؛ وأن يؤكد عليهم في استعمال أسباب الحفظة والاستظهار، ويوقظهم للاحتراس من غوائل الغفلة والاغترار؛ وأن يكون المشار إليهم ممن ربوا في ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد، وتدربوا في نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد، وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد، وكثرة العدد، والتوسعة في النفقة والعطاء؛ والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم في التقصير والفناء؛ إذ في ذلك حسم لمادة الأطماع في بلاد الإسلام، ورد لكيد المعاندين
من عبدة الأصنام؛ فمعلوم أن هذا الفرض أولى ما وجهت إليه العنايات وصرفت، وأحق ما قصرت عليه الهمم، ووقفت؛ فإن الله تعالى جعله من أهم الفروض التي كرم فيها القيام بحقه، وأكبر الواجبات التي كتب العمل بها على خلقه؛ فقال سبحانه وتعالى هاديا في ذلك إلى سبيل الرشاد، ومحرضا لعباده على قيامهم بفروض الجهاد:{(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)} . وقال تعالى:
({وَاُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}). وقال النبى صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا يخيف فيه المشركين ويخيفونه، كان له كأجر ساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، وأجر قائم لا يقعد إلى يوم القيامة، وأجر صائم لا يفطر» . وقال عليه السلام:
«غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس» . هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من سمع هذه المقالة فوقف لديها، فكيف بمن كان كما قال عليه السلام:
«ألا أخبركم بخير الناس: ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها» .
وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى في رعاياه، والاهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه؛ وأن يسلك في السياسة [بهم] سبل الصلاح، ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح، ويمد ظل رعايته على سلمهم ومعاهدهم ويزحزح الأقذاء والشوائب عن مناهلهم في العدل ومواردهم، وينظر في مصالحهم نظرا يساوى فيه بين الضعيف والقوى، ويقوم بأودهم قياما يهتدى به ويهديهم فيه إلى الصراط السوى؛ قال الله تعالى:
({إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.})
وأمره باعتبار أسباب الاستظهار والأمنه. واستقصاء الطاعة والقدرة الممكنة، في المساعدة على قضاء تفث حجاج بيت الله الحرام، وزوار نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن يمدهم بالإعانة في ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام، ويحرسهم من التخطف والأذى في حالتى الظعن والمقام؛ فإن الحج أحد أركان الدين المشيّدة، وفروضه الواجبة المؤكدة؛ قال الله تعالى «ولله على الناس حج البيت» .
وأمره بتقوية أيدى العاملين بحكم الشرع في الرعايا، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا؛ والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوى الاستحقاق، والشد على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق، وأنه متى تأخر أحد الخصمين عن أجابة داعى الحكم أو تقاعس في ذلك لما يلزم من الأداء والعدم، جذبه بعنان القسر إلى مجلس الشرع واضطره بقوة الانصاف إلى الأداء بعد المنع. وأن يتوخّى عمال الوقوف التي تقرّب المتقربون بها، واستمسكوا في ثواب الله بمتين حبلها.
وأن يمدهم بجميل المعاونة والمساعدة، وحسن الموازرة والمعاضدة، في الأسباب التي تؤذن بالعمارة والاستنماء، وتعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء؛ قال الله تعالى:
({وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى})
وأمره أن يتخير من أولى الكفاءة والنزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال، والقيام بالواجب: من أداء الأمانة والحراسة والتمييز لبيت المال. وأن يكونوا من ذوى الاضطلاع بشرائط الخدم المعينة وأمورها؛ والمهتدين إلى مسالك صلاحها وتدبيرها. وأن يتقدم إليهم بأخذ الحقوق من وجوهها المتيقنة، وجبايتها في أوقاتها المعينة؛ إذ ذاك من لوازم الجند ووفور الاستظهار، وموجبات قوة الشوكة بكثير الأعوان والأنصار، وأسباب الحيطة التي تحمى بها البلاد والأمصار؛ ويأمرهم بالجرى في الطسوق والشروط على النمط المعتاد، والقيام في مصالح الأعمال
على أقدام الجدو الاجتهاد. وإلى العاملين على الصدقات بأخذ الزكوات على مشروع السنن المهيع، وقصد الصراط المتبع؛ من غير عدول في ذلك عن المنهاج الشرعى؛ أو تساهل في تبديل حكمها المفروض وقانونها المرعى، فإذا أخذت من أربابها الذين يطهرون ويزكون بها؛ كان العمل في صرفها إلى مستحقها بحكم الشريعة النبوية وموجبها. وإلى جباة الجزية من أهل الذمة بالمطالبة بأدائها في أول السنة، واستيفائها منهم حسب أحوالهم بحكم العادة في الثروة والمسكنة؛ إجراء في ذلك على حكم الاستمرار والانتظام، ومحافظة على عظيم شعائر الإسلام.
وأمره أن يتطلع على أحوال كل من يستعمله في أمر من الأمور، ويصرفه في مصلحة من مصالح الجمهور، تطلعا يقتضى الوقوف على حقائق أماناتهم، وموجب تهذيبهم في حركاتهم وسكناتهم، ذهابا مع النصح لله تعالى في بريته وعملا فيه بقول النبى صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» .
وأمره أن يستصلح من ذوى الاضطلاع والغناء، من يرتب العرض والعطاء والنفقة في الأولياء، وأن يكونوا من المشهورين بالحزم والبصيرة، والموسومين في المناصحة بإخلاص الطويّة وإصفاء السريرة، حالين من الأمانة والصون بما يزين؛ ناكبين عن مظان الشبه والطمع الذى يصم ويشين؛ وأن يأمرهم باتباع عادات أمثالهم في ضبط أسماء الرجال، وتحلية الأشخاص والأشكال، واعتبار شيات الخيول وإثبات أعدادها، وتحريض الجند على تخيرها واقتناء جيادها، وبذل الجهد في قيامهم من الكراع واليزك والسلاح بما يلزمهم والعمل بقوله تعالى:
({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}).
فإذا نطقت جرائد الجند المذكورين بما أثبت لديهم، وحقق الاعتبار والعيان
قيامهم بما وجب عليهم، أطلقت لهم المعايش والأرزاق بحسب إقراراتهم وأوصلت إليهم بمقتضى واجباتهم واستحقاقهم: فإن هذا الحال أصل حراسة البلاد والعباد، وقيام الأمر بما أوجبه الله تعالى من الاستعداد بفرض الجهاد، قال تعالى:
({وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.})
وأمره بتفويض أمر الحسبة إلى من يكون بأمرها مضطلعا، وللسنة النبوية في إقامة حدودها متبعا، فيعتمد في الكشف عن أحوال العامة في تصرفاتها الواجب، ويسلك في التطلع إلى معاملاتهم السبيل الواضح والسنن اللاحب، في الأسواق لاعتبار المكاييل والموازين. ويقيمه [مقامه] في مؤاخذة المطففين، وتأديبهم بما تقتضيه شريعة الدين، ويحذرهم في تعدى حدود الإنصاف شدة نكاله، ويقابل المستحق المؤاخذة بما يرتدع به الجمع الكثير من أمثاله، قال الله تعالى:
({أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}).
وقال سبحانه:
({وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ.})
فليتول الملك السيد الكامل، المجاهد، المرابط، نصير الدين، ركن الإسلام، أثير الأنام، جلال الدولة، فخر الملة، عز الأمة، سند الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، أمير المجاهدين غازى بك معين أمير المؤمنين - ما قلده عبد الله وخليفته في أرضه، القائم له
بحقه الواجب وفرضه، أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، تقليد مطمئن بالإيمان، وينصح لله ولرسوله وخليفته - صلوات الله عليه - في السر والإعلان، وليشرح بما فوض إليه من هذه الأمور صدرا، وليقم بالواجب عليه من شكر هذا الإنعام الجزيل سرا وجهرا، وليعمل بهذه الوصايا الشريفة الأمامية، وليقف آثار مراشدها المقدسة النبوية، وليظهر من أثر الجد في هذا الأمر والاجتهاد، وتحقيق النظر الجميل لله والإرشاد، ما يكون دليلا على تأييد الرأى الأشرف المقدس - أجله الله تعالى - في اصطناعه واستكفائه، وإصابة مواقع النجح والرشد في التفويض إلى حسن قيامه وكمال اعتنائه، فليقدر النعمة في هذه الحال حق قدرها، وليمتر بأداء الواجب بما غلب عليه من جزيل الشكر غزير درها، وليطالع مع الأوقات بما يشكل عليه من الأمور الغوامض، ولينه إلى العلوم الشريفة المقدسة - أجلها الله تعالى - ما يلتبس عليه من الشكوك والغوامض (؟) ليرد عليه من الأمثلة ما يوضح له وجه الصواب في الأمور. ويستمد من المراشد الشريفة التي هى شفاء لما في الصدور بما يكون وروده عليه وتتابعه إليه نورا على نور، إن شاء الله تعالى.