الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4)
صورة العهد الصادر عن ديوان الإنشاء ببغداد بتولية صلاح الدين ملك مصر وأعمالها، والصعيد الأعلى، والاسكندرية وما يفتحه من بلاد الغرب والساحل، وبلاد اليمن وما افتتحه منها، ويستخلصه بعد من ولايتها
عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 10، ص 145 - 152)
«إنّ أولى من جادت رباعه سحب الاصطناع، وخصّ من الاصطفاء والاجتباء بالصّفايا والمرباع، من ترسّم انتهاج الجدد القويم، والطريق الواضح المستقيم، واعتلق من الولاء بأوثق عصمه وحباله، والفناء الذى يهتدى بأنواره في متصّرفاته وأعماله، والتحلّى بجميل الذكر في سيرته، وخلوص الاعتناء بأمور رعيّته، وكان راغبا في اقتناء حميد الخلال، مجتهدا في طاعة الله بما يرضيه من العدل الممتدّ الظّلال، عاملا فيما يناط به بما يتضوّع نشر خبره، ويجتنى بحسن صنعه يانع ثمره، باذلا وسعه في الصلاح، مؤذنة مساعيه بفوز القداح.
ولمّا كان الملك الأجلّ، السيد، صلاح الدين، ناصر الإسلام، عماد الدولة جمال الملك، فخر الملّة، صفّى الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، فامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتّمردين، عزّ المجاهدين، ألب غازى بك بن يوسف بن أيّوب - أدام الله علوّه - على هذه السّجايا مقبلا، وبصفاتها الكاملة مشتملا، مؤثرا تضاعف المأثرات، مثابرا على ما تزكو به الأعمال
الصالحات، متحلّيا بالمحامد الرائعة، مستبدّا بالمناقب التي هى لجميل أفعاله موافقة مطابقة، محصّلا من رضا الله تعالى ما يؤثره ويرومه، [و] من طاعة الدّار العزيزة - لا زالت مشيّدة البناء، سابغة النّعماء، دائمة الاستبشار، عزيزة الأنصار -[و] من استمرار الظّفر ما يستديمه - اقتضت الآراء الشريفة - لازال التوفيق قرينها، والتأييد مظافرها ومعينها - إمضاء تصرّفه وإنفاذ حكمه في بلاد مصر وأعمالها، والصعيد الأعلى، والإسكندرية، وما يفتحه من بلاد الغرب والساحل، وبلاد اليمن وما افتتحه منها ويستخلصه بعد من ولايتها؛ والتعويل في هذه الولايات عليه، واستنفاذ ما استولى عليه الكفّار من البلاد، وإعزاز كلّ من أذلّوه واضطهدوه من العباد، لتعود الثّغور بيمن نقيبته ضاحكة المباسم، وبإصابة رأيه قائمة المواسم.
أمره بادئا بتقوى الله التي هى الجنّة الواقية. والذّخيرة الباقية. والعصمة الكافية. والزاد إذا أنفض وفد الآخرة وأرملوا، والعتاد النافع إذا وجدوا شاهدا لهم وعليهم ما عملوا: فإنّها العلم المنصوب للرّشد، قال الله تعالى:({يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ.})
وأمره أن يتّخذ كتاب الله - سبحانه - العلم الذى به يقتدى. وبأنواره إلى حدود الصواب يهتدى، ويستمع لزواجره ومواعظه، ويعتبر بتخويفه وملاحظه، ويصغى إليه بسمعه وقلبه، وجوارحه ولبّه، ويعمل بأوامره المحكمة ويقف عند نواهيه المبرمة، ويتدبّر ما حوته آياته من الوعد والوعيد، والزّجر والتّهديد، وقال الله عز وجل:({وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.})
وأمره أن يكون على صلاته محافظا، ولنفسه عن الإخلال والتقصير في أداء
فرضها واعظا؛ فيغتنم الاستعداد أمام أوقاتها للأداء، ويحترز من فواتها والحاجة إلى القضاء، موفّيا حقّها من الرّكوع والسّجود، على الوصف الواجب المحدود، مخلصا سرّه عند الدّخول فيها، وناهيا نفسه عمّا يصدّها بالأفكار ويلهيها، مجتهدا في نفى الفكر والوسواس من قلبه، منتصبا في إخلاص العبادة لربّه:
ليغدو بوصف الأبرار منعوتا، قال الله تعالى:({إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً.})
وأمره بقصد المساجد الجامعة في أيّام الجمع، امتثالا لأمر الله المتّبع، بعزيمة في الخير صادقة، ونيّة للعبادة موافقة، وفى الأعياد إلى المصلّيات المصحرة المجمّلة بالمنابر الحالية، التي هى عن الأدناس مطّهرة نائية، فإنّها من مواضع العبادة ومواطنها ومظانّ تلاوة القرآن المأمور بحفظ آدابها وسننها، فقد وصف الله تعالى من وفّقه لتحميل مؤنه بالعمارة، بما أوضح فيه الإشارة، وشرّفه بوضع سمة الإيمان عليه بالإكرام الفاخر، فقال:({إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)} فيقيم الدعوة الهادية على المنابر على عادة من تقدّمه ومنتهيا فيها إلى أحسن ما عهده وعلمه.
وأمره بلزوم نزاهة الحرمات، واجتناب المحّرمات، والتحلىّ من العفاف والورع بأجمل القلائد الرائقة، والتقمصّ بملابس التقوى التي هى بأمثاله لاثقة؛ وسلوك مناهج الصّلاح الذى يجمل به فعله؛ ويصفو له علّه ونهله؛ وأن يمنع نفسه من الغضب؛ ويردّها عمّا تأمر به من سوء المكتسب؛ ويأخذها بآداب الله سبحانه في تهيها عن الهوى؛ وحملها على التقوى؛ وردعها عن التورط في المهاوى والشّبه وكلّ أمر يلتبس فيه الحقّ ويشتبه؛ ويلزمها الأخذ بالعفو والصّفح. والتأمل لمكان الأعمال فيه واللّمح؛ قال الله تعالى:({خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ.})
وأمره بإحسان السّيرة في الرعايا بتلك البلاد، واختصاصهم بالصّون الرائح الغاد، ونشر جناح الرّعاية على البعيد منهم والقريب، وإحلال كلّ منهم محلّة على القاعدة والترتيب؛ وإشاعة المعدلة فيهم، وإسهام دانيهم من وافر ملاحظته وقاصيهم، وأن يحمى سرحهم من كل داعر، ويذود عنهم كل موارب بالفساد ومظاهر، حتّى تصفو لهم من الأمن الشرائع، وتضفو عليهم من بركة ولايته المدارع، وتستنير بضوء العدل منهم المطالع، ويحترم أكابرهم، ويحنو على أصاغرهم، ويشملهم بكنفه ودرعه، وينتهى في مصالحهم إلى غاية وسعه، ولا يألوهم في النصح جهدا، ولا يخلف لهم في الخير وعدا، ويشاورهم في أمره فإنّ المشورة داعية إلى الفلاح، ومفتاح باب الصلاح، قال الله تعالى:({فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.})
وأمره بإظهار العدل في الرّعية التي تضمها جميع الأكناف والأطراف، والتحلّى من النّصفة بأكمل الأوصاف، وحمل كافّتهم على أقوم جدد، وعصيان الهوى في تقويم كلّ أود، والمساواة بين الفاضل والمفضول في الحقّ إذا ظهر صدق دليله، والاشتمال عليهم بالأمن الذى يعذب لهم برد مقيله، وكشف ظلامة من انبسطت إلى تحيّفه الأيدى والأطماع، وأعجزته النصرة لنفسه والدّفاع، وتصفّح أحوالهم بعين لا ترنو إلى هوى يميل بها عن الواجب، وسمع لا يصغى إلى مقالة مائن ولا كاذب، ولا يغفل عن مصلحة تعود إليهم، ويرجع نفعها عليهم، ولا عن كشف ظلامات بعضهم عن بعض، وردّهم إلى الحقّ في كلّ رفع من أحوالهم وخفض، فلا يرى إلا بالحقّ عاملا، وللأمور على سنن الشريعة حاملا، مجتنبا إغفال مصالحهم وإهمالها، وحارسا نظامها على تتابع الأيام واتصالها،
ليكون ذلك إلى وفور الأجر داعيا، وبحسن الأحدوثة قاضيا، مقتديا بما نطق به القرآن. ({إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.})
وأمره أن يأمر بالمعروف ويقيم مناره، وينهى عن المنكر ويمحو آثاره، فلا يترك ممكنا من إظهار الحقّ وإعلانه وقمع الباطل، وإخماد نيرانه، ويعتمد مساعدة كل مرشد إلى الطريق الأقصد، وناه عن التظاهر بالمحظور في كل مشهد، وكل من تضحى معونته مشاركة في إحراز المثوبة ومساهمة، ومساومة في اقتناء الأجر ومقاسمه، وأن يوعز بإزالة مظان الريب والفساد في الدانى من الأعمال والقاصى، فإنها مواطن الشيطان وأماكن المعاصى، وأن يشدّ على أيدى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويعينهم على ذلك بما يطيب ذكره في كل مشهد ومحضر، ويجتهد في إزالة كل محظور ومنكر، مقدم في الباطل ومؤخر، قال الله تعالى:({وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَاِنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ.})
وأمره أن يقدّم الاحتياط في حفظ الثغور ومجاوريها من الكفّار، ويستعمل غاية التيقظ في ذلك والاستظهار، ليأمن عليها غوائل المكايد، ويفوز من التوفيق لذلك بأنواع المحامد، ويتجرّد لجهاد أعداء الدين والانتقام من الكفرة المارقين أخذا بقول رب العالمين:({اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ})
وأن يعمل فيما يحصل من الغنائم عند فلّ جموعهم، وافتتاح بلادهم وربوعهم، بقول الله وما أمر به في قسمتها، وإيفاء كلّ صاحب حصته منها؛ سالكا سبل من غدا لآثار الصلاح مقتفيا، وللفرض في ذلك مؤديا، وبهدى ذوى الرّشد مهتديا، قال الله تعالى في محكم التنزيل:({وَاِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ.})
وأمره أن يجيب إلى الأمان من طلبه منه، ويكون وفاؤه مقترنا بما تضمّنه، غير مضمر خلاف ما يعطى به صفقة أمانه، ويجتنب الغدر وما فيه من العار، وإسخاط الملك الجبّار، قال الله عز وجل:({وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).}
وأمره بأن يأمر أصحاب المعاون بمساعدة القضاة والحكّام، ومعونتهم بما يقضى [بلمّ] شمل الصلاح في تنفيذ القضايا والانتظام، وأخذ الخصوم بإجابة الداعى إذا استحضر [وإلى] أبوابهم للإنصاف، والمسارعة إلى الحقّ الواجب عليهم من غير خلاف، قال الله تعالى:({وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ.})
وأمره بالتعويل في المظالم وأسواق الرقيق ودور الضرب والحسبة على من يأوى إلى عفاف ودين، وعلم بأحكام الشريعة وصحة يقين، لا يخفى عليه ما حرّمه الله تعالى وأحلّه، ولا يلتبس على علمه ما أوضح إلى الحقّ الواضح سبله؛ وإلى من يتولى المظالم بإيصال الخصوم إليه، وإنصافهم كما أوجب الله تعالى عليه؛ واستماع ظلاماتهم، وإحسان النظر في مشاجراتهم، فإن أسفر للحقّ ضياء تبعه، أو اشتبه الأمر ردّه إلى الحكام ورفعه. و [إلى] الناظر في أسواق الرقيق بالاحتراز والإستظهار، وتعرية الأحوال من الشبه في امتزاج العبيد بالأحرار. لتضحى الأنساب مصونة مرعية، والأموال عن الثّلم محروسة محمية، وإلى من ينظر في الحسبة بتصفح أحوال العامة في متاجرهم وأموالهم، وتتبع آثار صحتهم في المعاملة واعتلالهم. واعتبار الموازين والمكاييل، وإلزام أربابها الصحة والتعديل؛ قال الله سبحانه وتعالى:({وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ.})
وأن يعمل الجفن في تطهير البلاد، من كلّ مدخول الاعتقاد، معروف
بالشبه في دينه والإلحاد، ومن يسعى منهم في الفساد، ويأمر المرتبين في المراكز والأطراف باقتناصهم، وكفّ فسادهم وإجلائهم عن عراصهم، وأن يجرى عليهم في السياسة ما يجب على أمثالهم من الزنادقة والذين توبتهم لا تقبل؛ وأمرهم على حكم المخاطبين لا يحمل، قال الله تعالى:({إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ.})
وأمره أن يتلقى النعمة التي أفرغت عليه، وانساقت إليه؛ بشكر ينطق به لسانه، ويترجم عنه بيانه: ليستديم بذلك الإكرام؛ ويقترن الإحسان عنده بالالتئام؛ وأن يوفيها حقّها من دوام الحمد، والقصد إلى شكرها والعمد؛ قال الله تعالى:({وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ.})
وليعلم أن أمير المؤمنين قد بيّن له من الصلاح ما اتضحت أعلامه؛ وأثبتت في المرامى سهامه؛ وأرشد إلى ما أودع هذا المنشور من جدد الفوز بمرضاة الله تعالى وشكر عباده؛ عاملا في ذلك بمقتضى جدّه واجتهاده: ليحرز السبق في دنياه وعقباه؛ ويتوفر عنده ما منح به مما أرهف عزمه وحباه؛ وغدا بمكانه رافلا في ملابس الفخر والبهاء؛ نائلا منى ما طال به مناكب القرناء؛ واختصّ بما أعلى درجته، فتقاعست عنه آمال حاسديه وتفّرد بالمكانة عن مقام من يباريه ويناويه؛ وأولى من الإنعام ما أمّن به سرب النعمة عنده؛ وأصفى من مناهل الإحسان ورده؛ وأهدى إليه من المواعظ ما يجب أن يودعه واعية الأسماع؛ ويأخذ بالعمل به كلّ راع؛ فينهج - أدام الله علوّه - محاجّ الولاء؛ الذى عهده من أمثاله من الأولياء؛ متنزها عن تقصير منه في عامة الأوقات؛ ومراعيا أفعاله في جميع التصرفات؛ ويعلم أنه مسئول عن كل ما تلفّظ به لسانه ناطقا؛ ونظر طرفه إليه رامقا؛ قبل أن يجانب هواه؛ ويبقى رهينا بما اكتسبت يداه؛
ولا يغترّ من الدنيا وزخرفها بغرار ليس الوفاء من طباعه؛ ومعير ما أقصر مدة ارتجاعه! وسبيل كافّة القضاة والأعيان ومقدّمى العساكر والأجناد؛ ورؤساء البلاد؛ متابعته وموافقته؛ وطلب مصالحهم من جنابه؛ والتصرّف على استصوابه؛ وقد أكّدت وصاته في الرفق بهم والاشتمال عليهم؛ والإحسان إليهم، وإجمال السّيرة فيهم؛ وكلّما أشكل عليه أمر من المتجددات يطالع به الديوان العزيز - مجّده الله تعالى - لينهج له السبيل إلى فتح رتاجه؛ وسلوك منهاجه؛ والله ولىّ التوفيق والهداية، وجمع الكلمة في كل إعادة وبداية؛ والمعونة على العصمة من الزلل؛ والتأييد في القول والعمل؛ إن شاء الله تعالى؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل».