الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(24)
خطاب بقلم العماد الأصفهانى صادر عن صلاح الدين إلى الخليفة الناصر لدين الله ببغداد ينبئه بفتح القدس
عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 517 - 520)
الحمد لله على ما أنجز من هذا الوعد، على نصرته لهذا الدين الحنيف من قبل ومن بعد؛ وعلى أن أجرى هذه الحسنة التي ما اشتمل على شبهها كرام الصحائف، ولم يجادل عن مثلها في المواقف؛ في الأيام الإمامية الناصرية زادها الله غررا وأوضاحا، ووالى البشائر فيها بالفتوح غدوا ورواحا؛ ومكّن سيوفها في كل مازق، من كل كافر ومارق، ولا أخلاها من سيرة سرية تجمع بين مصلحة مخلوق وطاعة خالق، وأطال أيدى أوليائها لتحمى بالحقيقة حمى الحقائق، وأنجزها الحقّ وقذف به على الباطل الزاهق، وملكها هوادى المغارب ومرامى المشارق؛ ولا زالت أراؤها في الظلمات مصابح، وسيوفها للبلاد مفاتح، وأطراف أسنتها لدماء الأعداء نوازح.
والحمد لله الذى نصر سلطان الديوان العزيز وأيّده، وأظفر جنده الغالب وأنجده، وجلا به جلابيب الظلماء وجدّد جدده؛ وجعل بعد عسر يسرا، وقد أحدث الله بعد ذلك أمرا، وهوّن الأمر الذى ما كان الإسلام يستطيع عليه صبرا، وخوطب الدين بقوله:{وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى.}
فالأولى في عصر النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة، والأخرى هذه التي عتق فيها من رقّ الكآبة، فهو قد أصبح حرا فالزمان كهيئته استدار، والحق بمهجته قد استنار؛ والكفر قد ردّ ما كان عنده من المستعار، وغسل ثوب الليل بما فجّر الفجر من أنهار النهار؛ وأتى الله بنيان الكفر من القواعد، وشفى غليل صدور المؤمنين برقراق ماء الموردات البوارد، أنزل ملائكة لم تظهر للعيون اللاحظة، ولم تخف عن القلوب الحافظة؛ عزت سيما الإسلام بمسومها، وترادف نصره بمردفها، وأخذت القرى وهى ظالمة فترى مترفيها كأن لم تؤو فيها؛ فكم أقدم بها حيزوم، وركض فاتبعه سحاب عجاج مركوم، وضرب فإذا ضربه كتاب جراح مرقوم.
وإلا فإن الحروب إنما عقدت سجالا، وإنما جمعت رجالا وإنما دعت خفافا وثقالا؛ فإما سيوف تقاتل سيوفا، أو زحوف تقاتل زحوفا؛ فيكون حدّ الحديد بيد مذكرا وبيد مؤنثا، ويكون السيف في اليد الموحدة يغنى بالضربة الموحدة، ومن اليد المثلثة لا يغنى بالضرب مثلثا، وذلك أنه في فئتين التقتا، وعدوتين لغير مودة اعتنقتا، وإن هذه النصرة إن زويت عن ملائكة الله جحدت كراماتهم، وإن زويت عن البشر فقد عرفت قبلها مقامتهم، فما كان سيف يتيقظ من جفنه قبل أن ينبهه الصريخ، ولا كان ضرب يطير الهام قبل ضرب يراه الناظر ويسمعه المصيخ، فكم ضربة كأنها هجرة الموت وبها التاريخ، وكم طعنة تحزّ لها هضاب الحديد ولها شماريخ.
والحمد لله الذى أعاد الإسلام جديدا ثوبه، بعد أن كان جديدا حبله، مبيضّا نصره، مخضّرا نصله، متسعا فضله، مجتمعا شمله.
والخادم يشرح من نبإ هذا الفتح العظيم، والنصر الكريم؛ ما يشرح صدور المؤمنين، ويمنح الحبور لكافة المسلمين؛ ويكرر البشرى بما أنعم الله به
- من يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس منسلخه - وتلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما سخّرها الله على الكفار {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} ورايتها إلى الإسلام ضاحكة كما كانت من الكفر باكية.
فيوم الخميس الأول فتحت طبرية، وفاض رىّ النصر من بحيرتها، وقضت على جسرها الفرنج فقضت نحبها بحيرتها.
وفى يوم الجمعة والسبت كسر الفرنج الكسرة التي ما لهم بعدها قائمة، وأخذ الله أعداءه بأيدى أوليائه أخذ القرى وهى ظالمة.
وفى يوم الخميس منسلخ الشهر فتحت عكا بالأمان، ورفعت بها أعلام الإيمان؛ وهى أمّ البلاد، وأخت إرم ذات العماد؛ وقد أصبحت كأن لم تغن بالكفر وكأن لم تفتقر من الإسلام.
وقد أصدر هذه المطالعة وصليب الصلبوت مأسور، وقلب ملك الكفر الأسير جيشه المكسور مكسور؛ والحديد الكافر الذى كان في الكفر يضرب وجه الإسلام، وقد صار حديدا مسلما يفرّق خطوات الكفر عن الأقدام؛ وأنصار الصليب وكباره، وكلّ من المعمودية عمدته والدّير داره؛ وقد أحاطت به يد القبضه، وأخذ رهنا فلا تقبل فيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؛ وطبرية قد رفعت أعلام الإسلام عليها، ونكصت من عكّا ملّة الكفر على عقبيها، وعمّرت إلى أن شهدت يوم الإسلام، وهو خير يوميها؛ بل ليس من أيام الكفر يوم فيه خير، وقد غسل عن بلاد الإسلام بدماء الشرك ما كان يتخللها فلا ضرر ولا ضيّر؛ وقد صارت البيع مساجدهم، بها من آمن بالله واليوم الآخر، وصارت المناحر مواقف لخطباء المنابر، واهتزت
أرضها لوقوف المسلمين فيها وطالما ارتجّت لمواقف الكافر، والبأس الإمامى الناصرى قد أمضى مشكاته على يد الخادم حتى بالدّنىّ في الكنائس، وإنّ عزّ أول الإسلام بحطّ تاج فارس، فكم حطّت سيوفه في هذا اليوم من تاج فارس.
فأما القتلى والأسارى فإنها تزيد على ثلاثين ألفا.
وأما فرسان الديوية والاسبتارية فقد أمضى الله حكمه فيهم وقطع بهم سيوف نار الجحيم، ووصّل الراحل منهم إلى الشقاء المقيم؛ وفتك بافرنس كافر الكفّار، ومشيّد النار، من يده في الإسلام كما كانت يد الكليم؛ وافتّرت النصرة عن ثغر عكّا بحمد الله الذى يسّر فتحها، وتسلمتها الملّة الإسلامية بالأمان وعرفت في هذه الصفقة ربحها.
وأما طبريّة فافترتها يد الحرب فأنهرت الحرب جرحها.
فالحمد لله حمدا لا تضرب عليه الحدود، ولا تزكى بأزكى منه العقود؛ وكأنه بالبيت المقدس وقددنا الأقصى من أقصاه، وبلّغ الله فيه الأمل الذى علم أن يحصيه وأحاط بأجلّه وأقصاه؛ لكل أجل كتاب، وأجل العدو هذه الكتائب الجامعة، ولكل عمل ثواب، وثواب من هدى لطاعته جنات نعيمه الواسعه؛ والله المشكور على ما وهب، والمسئول في إدامة ما استيقظ من جد الإسلام وهب.
وقد توجّه من جانبه الأمير رشيد الدين دام تأييده في إهداء هذه البشرى نيابة عن الخادم، ووصف ما يسّره الله لأوليائه من العزائم، والبلاد والمعاقل التي فتحت هى:«طبرية، عكا، الناصرة، صفوريّة، قيسارية، نابلس، حيفا، معليا، القزله، الطور، الشقيف، وقلاع بين هذه كثيرة» .
والولد المظفر تقى الدين بصور وحصن تبنين.
والأخ العادل سيف الدين - نصره الله - قد أوفت بالوصول من عنده من العساكر فينزل في طريقه على غزة وعسقلان، ويجهز مراكب الأسطول المنصور ويكثر عددها، ويسير بها إلى ثغر عكا المحروس ويشحنها بالرجال، ويوفر سلاحها وعددها؛ والنهوض إلى القدس فهذا أوان فتحه ولقد دام عليه ليل الضلال، وقد آن أن يستقر فيه الهدى مشكور الإحسان، إن شاء الله تعالى.