الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2)
خطاب بقلم القاضى الفاضل مرسل من السلطان صلاح الدين إلى الخليفة ببغداد، يبشره بفتح بلد من بلاد النوبة لذلك، وانهزام ملكها بعساكره
عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 6، ص 512 - 515)
صلوات الله التي أعدها لأوليائه وذخرها، وتحياته التي قذف بشهبها شياطين أعدائه ودحرها، وبركاته التي دعا بها كل موحد فأجاب، وانقشع بها غمام الغمّ وظلام الظّلم فانجاب عن أنجاب، وزكاته التي هى للمؤمنين سكن، وسلامه الذى لا يعترى الموقنين في ترديده حصر ولا لكن. على مولانا عاقد ألوية الإيمان، وصاحب دور الزمان، وساحب ذيل الإحسان، وغالب حزب الشيطان، الذى زلزلت إمامته قدم الباطل، وحلت خلافته ترائب الدهر العاطل، واقتضت سيوفه ديون الدّين من كل غريم ماطل، وأمضت غرب كل عزم للحق مفلول، وأطلعت غارب مجم كل هدى آفل، وشفعت يقظات استغفاره إلى غافر ذنب كلّ غافل؛ وعلى آبائه الغاية والمفزع، والملاذ في وقت الفزع، والقائمين بحقوق الله إذ قعد الناس، والحاكمين بعدل الله إذ عدم القسطاس، والمستضيئين بأنوار الإلهام الموروثة من الوحى إذا عجز الاقتباس، والصابرين في البأساء والضراء وحين الباس؛ خزّان الحكم، وحفّاظها، ومعانى النّعم، وألفاظها، وأعلام العلوم المنشورة إلى يوم القيامة، وكالئى السروح المنتشرة من كلا (1) سديد الإمامة؛ ومن لا ينفذ سهم
(1) كذا في الأصول مضببا عليه، وفى الضوء «المنتشرة بين الإمامة» .
عمل إلا إذا شحذ بموالاتهم، ولا يتألق صبح هداية إلا إذا استصبح السارى بدلالاتهم.
المملوك يقبل الأرض بمطالع الشرف ومنازله، ومرابع المجد ومعاقله؛ ومجالس الجود، ومحال السجود؛ ومختلف أنباء الرحمة المنزلة، ومرسى أطواد البسيطة المتزلزله؛ ومفتر مباسم الإمامة، ومجر مساحب الكرامة؛ ومكان جنوح أجنحة الملائك، ومشتجر مناسك المناسك، حيث يدخلون من كل باب مسلمين، ويتبعهم ملوك الأرض مستسلمين؛ ومشاهد الإسلام ليوم أنزل فيه اليوم «أكملت لكم دينكم». وينعقد على الولاية فأما غيره فله قوله:«قاتلوا الذين يلونكم» .
ويناجيها بلسان جلى الإخلاص الصادق عقيدته، وأنشط الولاء السابق عقيلته، وأرهف الإيمان الناصع مضاربه، وفسح المعتقد الناصح مذاهبه، فأعرب عن خاطر لم يخطر فيه لغير الولاء خطره، وقلب أعانه على ورود الولاء [أن] صفاء المصافاة فيه خطره، ويخبر أنه ما وهن عما أوجبته آلاؤه ولا وهى، ولا انثنى عزمه عن أن يقف حيث أظلت سدرة المنتهى، ووضحت الآيات لأولى النهى.
والله سبحانه يزيل عنه في شرف المثول عوائق القدر وموانعه، ويكشف له عن قناع الأنوار التي ليست همته بما دون نظرها قانعة - وكان توجه منصورا بجيش دعائه قبل جيش لوائه، وبعسكر إقباله، قبل عسكر قتاله، وبنصال سلطانه، قبل نصال أجفانه، لا جرم أن كتائب الرعب سارت أمام الكتائب، وقواضب الحذر غمضت في جفونها عيون القواضب - وسار أولياء أمير المؤمنين الذين تجمعوا من كل أمة، وتداعوا بلسان النعمة، متواخية نياتهم في الإقدام، متألفة طوياتهم في طاعة الإمام، كالبنيان المرصوص انتظاما، وكالغاب الشجر أعلاما، وكالنهار المانع حديدا وهاجا، وكالليل الشامل عجاجا عجاجا، وكالنهر
المتدافع أصحابا، وكالمشط المطرد اصطحابا، والأرض ترجل برجلهم لما ترفعه الحوافر من غيومها، والسماء تنزل نزولهم لما تضعه الذوابل من نجومها، فما انتشرت رياضها المزهرة، وغياضها المشجرة، إلا دلت على أن السحاب الذى سقاهم كريم، والإنعام الذى غمرهم عظيم، والدنيا التي وسعتهم من عزمتهم تظعن وتقيم.
ولما علم العدو أن الخطب المظنون قد صرح خطابه، والأمل المخدوع قد صفر وطابه، راسل ورأى سل السيوف يغمده، وماكر وماكّر لعلمه أن الحتف يعمده، واندفع هاربا هائبا، وخضع كائبا كاذبا، فمضى المملوك قدما، وحمّله ظلمه وقد خاب من حمل ظلما، وأجابه بأنه وطئ البساط برجله وإلا وطئه برأسه، وإن قدم على المملوك بأمله وإلا أقدمه بيأسه، وإن لم يظهر أثر التوبة وإلا أقام عليه الحد بسكرة الموت من كأسه، فلم يخرج من مراوغة تحتها مغاوره، ومكاسرة وراءها مكاشرة.
فاستخار الله في طلبه، وانتهز فيه فرصة شغل قلبه بريبة، ولم يغره ما أملى له في البلاد من تقلّبه، وسار ولم يزل مقتحما، وتقدم أول العسكر محتدما، وإذا الدار قد ترحل أهلها منها فبانوا وظعنوا عن ساحتها فكأنهم ما كانوا، ولم يبق إلا مواقد نيران رحلت قلوبهم بضرامها، وأثافى دهم أعجلت المهابة ما رد سغبهم عن طعامها، وغربان بيّن كأنها في الديار ما قطع من رءوس بنى حامها، وعوافى طير كانت تنتظر من أشلائهم فطر صيامها، وعادت الرسل المنفذة لاقتفاء آثارهم وأداء أخبارهم، ذاكرة أنهم لبسوا الليل حدادا على النعمة التي خلعت، وغسلوا بماء الصبح أطماع نفس كانت قد تطلعت، وأنهم طلعوا الأوعار أوعالا والعقاب عقبانا، وكانوا لمهابط الأودية سيولا، ولأعالى الشجر قضيانا - فرأى المملوك أن الكتاب فيهم قد بلغ أجله، والحزم منهم قد نال أمله، والفتك بهم قد أعمل متصله، وأن سيوف عساكر أمير المؤمنين منزهة أن تريق الإدماء
أكفائها من الأبطال، وأن تلقى إلا وجوه أنظارها من الرجال، وأن المذكورين نمل حطمه سليمان عليه السلام وجنوده، ورحل أطاره العاصف الذى يسحفه ويقوده - وأصدر هذه الخدمة والبلاد من معرتهم عارية، والكلمة بانخفاضهم غالية عالية، ويدا الله على أعدائه عادية، وأنفس المخاذيل في وثاق مهابته العالية عانية - فرأى المملوك أن يرتب بعده الأمير فلانا ليبذل الأمانات، لسوقة أهل البلاد ومزارعيها، ويفصل المحاكمات، بين متابعى السلطنة ومطاوعيها، ويفسح مجال الإحسان لمعاودى المواطن ومراجعيها، فيعمر من البلاد ما قد شغر، ويشعر بالأمنة من لا شعر، فإن مقام المملوك ومن معه من عساكر تمنع الشمس من مطلعها، وترد جرية البحر عن موقعها، مما يضر بالغلال وينسفها، ويحجف بالرعايا ويعسفها.
فالحمد لله الذى جعل النص لائذا بأعطاف اعتزامه، وأنامل الرعب السائر إلى الأعداء محركة عذبات أعلامه، والعساكر المناضلة بسلاح ولائه، تغنى بأسمائها عن مرهفاتها، والكتائب المقاتلة بشعار علائه تقرأ كتب النصر من حماتها.