الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(29)
مرسوم بقلم القاضى الفاضل صادر عن صلاح الدين لتحويل السنة الخراجية إلى سنة هلالية
عن: (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 13، ص 71 - 74)
خرجت الأوامر الصلاحية بكتب هذا المنشور وتلاوة مودّعه بحيث يستمر، ونسخه في الدواوين بحيث يستقر؛ ومضمونه.
إنّ نظرنا لم يزل تتجلّى له الجلائل والدقائق، ويتوخى من الحسنات ما تسير به الحقائب والحقائق، ويخلّد من الأخبار المشروعة، كلّ عذب الطرائق رائق، ويجدّد من الآثار المتبوعة، ما هو بثناء الخلائق لائق، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير إلا جهدنا أن نكتسبها، ولا يثوّب بنا الداعى إلى مثوبة إلا رأينا أن نحتسبها، لا سيما ما يكون للسنين الماضية ممضيا، وإلى القضايا العادلة مغضيا، ولمحاسن الشريعة مجلّيا، ولعوارض الشّبه رافعا، ولتناقض الخبر دافعا، ولأبواب المعاملات حافظا، ولأسباب المغالطات لافظا، وللخواطر من أمراض الشكوك مصحّحا، وعن حقائق اليقين مفصحا، وللأسماع من طيف الاختلاف معفيا، ولغاية الإشكال من طرق الأفهام معفّيا.
ولما استهلّت سنة كذا الهلالية، وقد تباعد ما بينها وبين السنة الخراجية إلى أن صارت غلاّتها منسوبة إلى ما قبلها، وفى ذلك ما فيه: من أخذ الدرهم المنقود عن غير الوقت المفقود، وتسمية بيت المال ممطلا وقد أنجز، ووصف
الحق المتلف بأنه دين وقد أعجز، وأكل رزق اليوم وتسميته منسوبا إلى أمسه، وإخراج المعتدّ لسنة هلاله إلى حساب المعتدّ إلى سنة شمسه.
وكان الله تعالى قد أجرى أمر هذه الأمة على تاريخ منزّه عن اللّبس، موقّر عن الكبس، وصرّح كتابه العزيز بتحريمه، وذكر ما فيه من تأخير وقت النّسىء وتقديمه، والأمّة المحمدية لا ينبغى أن يدركها الكسر، كما أن الشمس لا ينبغى أن تدرك القمر، وسننها بين الحق والباطل فارقة، وسنتها أبدا سابقة، والسّنون بعدها لاحقة، يتعاورها الكسر الذى يزحزح أوقات العبادات عن مواضعها، ولا يدرك عملها إلا من دقّ نظره، واستفرغت في الحساب فكره، والسنة العربية تقطع بخناجر أهلّتها الاشتباه، وتردّ شهورها حالية بعقودها موسومة الجباه، وإذا تقاعست السنة الشمسية عن أن نطأ أعقابها، وتواطى حسابها، اجتذبت قراها قسرا، وأوجبت لحقّها ذكرا، وتزوجت سنة الشمس سنة الهلال وكان الهلال بينهما مهرا؛ فسنتهم المؤنثة وسنتنا المذكّرة، وآية الهلال هنا دون آية الليل هى المبصرة، وفى السنة العربية إلى ما فيها من عربية الإفصاح وراحة الإيضاح الزيادة التي تظهر في كل ثلاث وثلاثين سنة توفى على عدد الأمم قطعا، وقد أشار الله إليها بقوله:
({وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَاِزْدَادُوا تِسْعاً.}) وفى السنة الزائدة زيادة، من لطائف السعادة، ووظائف العبادة، لأن أهل ملّة الإسلام يمتازون على كل ملة بسنة في نظير تلك المدة قصدوا صلاتها، وأدّوا زكاتها، وحجّوا فيها البيت العتيق الكريم، وصاموا فيها الشهر العظيم، واستوجبوا فيها الأجور الجليلة، وأنست فيها أسماعهم بالأعمار الطويلة، ومخالفوهم فيها قد عطلت
صحائفهم في عدوانهم، وإن كانت عاطلة، وخلت مواقفهم في أديانهم، وإن لم تكن قطّ آهلة.
وقد رأينا باستخارة الله سبحانه ولتيمن باتباع العوائد التي سلكها السلف، ولم تسلك فيها السّرف، أن ينسخوا أسماءها من الخراج، ويذهب ما بين السنين من الاضطراب والاعوجاج، لا سيما والشهور الخراجية قد وافقت في هذه الشهور الشهور الهلالية، وألقى الله في أيامنا الوفاق بين الأيام، كما ألقى باعتلائنا الوفاق بين الأنام، وأسكن بنظرنا ما في الأوقات من اضطراب وفى القلوب من اصطرام.
فليستأنف التاريخ في الدواوين المعمورة، لاستقبال السنة المذكورة، بأن توسم بالهلالية الخراجية لإزالة الالتباس، ولإقامة القسطاس، [وإيضاحا] لمن أمره عليه غمّة من الناس، وعلى هذا التقرير تكتب سجلات التحضير، وتنتظم الحسبانات المرفوعة، والمشارع الموضوعة، وتطرد القوانين المشروعة، وتثبت المكلفات المقطوعة، ولو لم يكن بين دواعى نقلها، وعوارض زللها وزوالها، إلا أن الأجناد إذا قبضوا واجباتهم عن منشور إلى سنة خمس في أواخر سنة سبع وسقط ساقطهم بالوفاة، وجرى بحكم السمع لا بالشرع إلى أن يرث وارثه دون بيت المال مستغلّ السنة الخراجية التي يلتقى فيها تاريخ وفاته من السنة الهلالية وفى ذلك ما فيه، مما يباين الإنصاف وينافيه [لكفى].
وإذا كان العدل وضع الأشياء في مواضعها فلسنا نحرم أيّامنا المحرّمة بذمامنا ما رزقته أبناؤها من عدل أحكامنا، بل نخلع عن جديدها المس كل المس، و [نمنع] تبعة الضّلال أن تسند مهادنته إلى نور الشمس، ولا نجعل أيامنا
معمورة بالأسقاط التي تجمعها، بل مغمورة بالأقساط التي تنفعها، فليبن التاريخ على بنيانه وليحسم الخلف الواقع في السنين، بهذا الحقّ الصادع المبين، ولينسخ المشهود به في جميع الدواوين، وليكاتب بحكمه من الخراج إلى من يمكنه من المستخدمين؛ ومنها أن المستجدّ من الأجناد لو حمل على السنة الخراجية في استغلاله، وعلى الهلالية في استقباله، لكان محالا على ما يكون محالا، وكان يتعجل استقبالا، ويباطن استعلالا، وفى ذلك ما ينافر أوصاف الإنصاف، ويصون الفلاح إن شاء الله.