الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولُه: {ظُلْمًا} دليلٌ على جوازِ الأكلِ مِن مالِ اليتيم بغيرِ ظلمٍ، للفقيرِ المُحتاجِ مِن غيرِ إهلاكٍ وإفسادٍ؛ كما تقدَّمَ.
* * *
إحكامُ الله لأمور الأموالِ في الإسلامِ:
مِن إحكامِ اللهِ في الأموالِ: أن ذَكَرَ المواريثَ بعدَ فصلِهِ في أمورِ الأموالِ الأُخرى في هذه السورِة؛ فالمواريثُ تكونُ بعدَ موتِ صاحِبِ المال، وَيَسبِقُ المواريثَ الوصيَّةُ؛ لأنَّها قبلَ موتِه، ويَسبقُ الوصيَّةَ نفقتُه على ذريَّتِه، وقبلَ نفقتِه على ذريتِه نفقتُه على زوجتِه، وقبلَ نفقتِه على زوجتِه مهرُها وصَدَاقُها؛ فبيَّنَ اللهُ تلك الأحكامَ بالترتيب على وقوعِها في الحياةِ.
ترابُطُ الأمورِ الماليَّة بعضِها ببعضٍ:
فقال تعالى في الحِيَاطةِ في أمرِ الأموالِ: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2].
ثمَّ ذكَرَ اللهُ بعدَ ذلك بدايةَ تكوُّنِ الذريَّةِ بالزواجِ، فبيَّنَ الحقوقَ الماليَّةَ لها، فقال:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
ثمَّ بعدَ العقدِ والدخولِ تَكُونُ النفقةُ والكِسْوةُ عليها وعلى ذريَّتِها منه؛ فقال: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5].
ثمَّ بيَّنَ حالَ الوصيَّةِ وحذَّرَ مِن أسبابِ الحَيْفِ فيها.
وهذا تسلسلٌ وإحكامٌ لا يُفهَمُ ما بعدَهُ إلا به، وعدلُ اللهِ في الأموالِ ملازِمٌ؛ لا يُفهَمُ أوَّلُهُ إلَّا بفهمِ آخِرِه، ولا يُفهَمُ أوسَطُهُ إلا بفهمِ أوَّلِهِ وآخِرِه.
وقد تشبَّثَ بعضُ أهلِ الأهواءِ مِن الملاحِدةِ وبعضُ النصارى طعنًا في الشريعةِ: أنَّ إعطاءَ الابنِ ضِعْفَ ما للبنتِ ليس مِن العدل، وفَصَلُوها عمَّا قبلَها بن الآياتِ التي تُوجِبُ على الرجلِ القيامَ على الأُنثى؛ فإنْ كانتْ صغيرةً أو كبيرةً بلا زوجٍ، أنفَقَ عليها:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، وهي في الصِّغار والنساءِ بالاتِّفاقِ ولو كانتِ المرأةُ كبيرةً، وأمَّا الرجُلُ لو كَبِرَ فيجبُ عليه العمل والتكسُّبُ بخلافِ المرأة، وإنْ تزوَّجَت، وجَبَ على الرجُلِ أنْ يُعطِيَها صداقَها، فهو على الرجُلِ لها، لا عليها له:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، ثم يُنفِقُ عليها بعدَ ذلك إلى موتِها أو موتِه، فكان الوريثُ الذَّكَرُ أحوَجَ للمالِ مِن الأُنثى؛ لأنَّ الأُنثى استعاضَتْ نفقةً وكفايةً قبلَ ذلك، ولا تَستقبِلُ مِثْلَها في حياتِها؛ لأنَّها في ولايةِ وكفالةِ غيرِ والدِها كزوجِها أو ابنِها، بخلافِ الذَّكَرِ؛ فهو يَستقبِلُ نفقةً على غيرِهِ مِن أبنائِهِ وبناتِهِ وغيرِهم، والأُنثى لا تجبُ عليها النفقةُ على أحدٍ، ولو كانت غنيَّةً، ووليُّها أقَلَّ منها مالًا، وجَبَ عليه أنْ يُنفِقَ عليها، لا أنْ تُنفِقَ عليه؛ فالأُنثى مكفولةٌ قبلَ الميراثِ وبعدَه، والذَّكَرُ بخلافِها؛ لهذا كان نصيبُهُ في الميراثِ أكثَرَ منها.
والمرأةُ لا تدخُلُ في كثيرٍ مِن التكاليفِ الماليَّةِ والغراماتِ؛ فلا تدخُلُ في عاقِلَةِ الرجُلِ عندَ الدِّيَة، ولا تَضْمَنُ على ولدِها لو أفسَدَ مالَ غيرِه؛ وإنَّما ذلك على الأولياءِ الرِّجَالِ.
ومَن نَظَرَ إلى هذه الآيةِ وفَصَلَها عن انتظامِها في الشريعةِ؛ كما في هذه السورةِ، لم يَفهَمْ إحكام الشريعةِ وعَدْلَها ودِقَّتَها.
واللهُ قدَّمَ الأولادَ على غيرِهِمْ في الذِّكْرِ والحقِّ في المواريثِ؛ لأنَّهم أَوْلى الناسِ بمالِ أبيهِم بعدَ موتِه، وإنْ كان الآباءُ والأمَّهاتُ أحَقَّ بالبِرِّ؛ ولكنَّ المواريثَ حَقٌّ ماليٌّ يتعلَّق بالحاجةِ لا بالبِرِّ الذي يفعَلُهُ الولدُ في حياتِه؛ فذاك انقطَعَ بموتِهِ عن والدَيْه، والميرِاثُ يحتاجُ إليه الأولادُ أكثَرَ مِن الوالدَينِ؛ لأنَّ الوالدَينِ استقَلَّا واكْتَفَيَا، وغالبًا ما يكونُ العمرُ الباقي منهما أقَلَّ من العمرِ الباقي مِن أولادِ الميِّتِ؛ فالأولاد يَستقبِلونَ حاجةً أشدَّ مِن حاجةِ الوالدَين، فقُدِّمُوا لهذا الأمر، وقد يكونُ الأولادُ قُصَّرًا ضِعافًا، والوالدُ كبيرًا شديدًا.
والوالدانِ سبَقَا الولدَ الميِّتَ بكفايةِ نَفْسَيْهما، والإخوةُ قارَنَا الأخَ الميِّتَ بكفايةِ أنفُسِهم غالبًا، والأولادُ يَقصُرُونَ عن الوالدَيْنِ والإخوةِ في كفايةِ أنفُسِهم؛ لهذا كانوا أحَقَّ بالإرثِ.
وقد قدَّمَ اللهُ الأولادَ، ثمَّ ثنَّى بالوالدَيْنِ؛ لأنَّهما أحَقُّ مِن الإخوةِ؛ لحاجتِهما لغلَبةِ الكِبَرِ والضَّعْفِ، بخلافِ الإخوةِ.
وقولُ الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ؛ الوصيَّةُ أمرٌ مِن اللهِ وفرضٌ منه بلا خلافٍ؛ فاللهُ ختَمَ هذه الآيةَ بقوله {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} .
ذَكَرَ اللهُ الذُّكُورَةَ والأُنُوثَةَ، ولم يَذْكُرِ الرجالَ والنساءَ؛ لِيَدْخُلَ في ذلك الصغيرُ والكبيرُ مِن الجنسَيْنِ، ولا فرقَ بينَ رضيعٍ وشيخٍ كبيرٍ، ولا فرقَ بينَ مجنونٍ وعاقلٍ.