الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقتٍ كان أهلُ المدينةِ مأمورينَ فيه بالجهادِ؛ لكَثرَتهم وقُوَّتهم، فلم يُؤمَرْ أهلُ الحبشةِ لما أُمِرَ به أهلُ المدينة، وقد بَقُوا في الحبشةِ بعدَ نزولِ آياتِ الجهادِ بضعةَ أعوامٍ، وأجرِيَ أهلُ الحبشةِ عَلَى ما مَضَى مِن كفِّ اليدِ الذي كانوا عَلَيْهِ في مَكَّةَ:{كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77].
الحالةُ الثانيةُ: أن يكونَ المُسلِمونَ في بَلَدِ كُفْرٍ أفرادًا أو جماعاتٍ قليلةَ وأُسَرًا متفرِّقةً في أوساطِ المشرِكِينَ، فهؤلاءِ تجبُ عليهم الهِجْرةُ؛ لأنَّ القلَّةَ تذوبُ مع الكثرة، فلا شوكةَ لهم ولا هيبةَ، وربَّما تنصَّرَ الأولادُ والأحفادُ؛ بسب إقامةِ الأجدادِ وهم قِلَّةٌ وَسْطَ المشرِكِينَ، وربَّما حمَلَهم ذلك عَلَى محاكاةِ الفعلِ والتشبُّهِ بالمشرِكِينَ في الظاهرِ؛ لأنَّهم لا شوكةَ لهم ولا حميَّةَ تَحفَظُ في نفوسِهم هَيبةَ دِينِهم، وهؤلاءِ وإن أقاموا شعائرَهم فلا بدَّ أن تذوبَ ذُرِّيَاتُهم في الكفرِ؛ إن لم يكْن في الأولاد، ففي الأحفادِ ومَن بَعْدَهم، وذلك أنَّ المُسلِمينَ لمَّا تمكَّنُوا في المدينة، أرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المهاجِرِينَ في الحبشةِ أن يأتُوا إليه؛ لأنَّهم جماعةٌ قليلةٌ بالنِّسبَة لبلدٍ أهلُهُ كثيرٌ.
وأَمِّا إنْ كان الحاكمُ لا يحكُمُ بحُكْمِ اللهِ كما في الحدودِ والتعزيراتِ في العقوبات، ولا في العقودِ والمعاملات، كما أمَرَ اللهُ في كتابِه، وأهلُ تلك البدِ مُسلِمونَ، كما هو في أكثرِ بُلْدانِ الإسلامِ اليومَ، فلا خلافَ في فضلِ تركِ تلك البلدِ.
الأحكامُ المُبَدَّلَةُ وأثرُهَا عَلَى الهِجْرَة:
وأما في تحقُّقِ وجوبِ الهجرةِ مِنها مِن عدَمِه، فإنَّ تلك الأحكامَ المُبدَّلةَ عَلَى حالتَينِ:
الحالة الأولى: ألَّا تُعُمَّ البَلْوَى لعمومِ المسلِمِينَ ولا جمهورِهم مِن
التَّلبُّسِ بتلك الأحكامِ المبدَّلةِ؛ فلا يجبُ عليهِمُ الهِجْرةُ مِنْ بلدِهم حينئذٍ؛ بشرطِ أنْ يَقدِروا عَلَى إظهارِ الدِّينِ وشعائرِه، وبيانِ حُكْمِ الحاكِمِ والمُتحاكِمِ إلى غيرِ حُكمِ الله، والتربُّصِ بالحاكمِ وعزلِهِ عَلَى مراتبِ القُدْرةِ والقُوَّةِ والتمكينِ.
وذلك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بدأَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ آياتُ الحدودِ والعقوباتِ والعقودِ في القرآنِ والسُّنَّة، وجماعةٌ مِن أصحابِه في الحبَشة، ولا يُقامُ فيها حُكمُ الله، فلم يأمُرُهُم بتَرْكِ الحبَشةِ واللِّحَاقِ به في المدينة، ولمَّا جاءَ جعفرٌ ومَن معَهُ بعدَ خَيْبَرَ مِنَ الحبَشةِ إلى المدينةِ في السنةِ السابعةِ مِن الهجرة، لم يُنكِرْ عليهم تأخُّرَهم، وقد بَقُوا في الحبشةِ بعدَ بَدْءِ نزولِ آياتِ الحدود والعقودِ أعوامًا.
ولأنَّ الأحكامَ تتعلَّقُ بالأفرادِ غالبًا، وتعلُّقُها بالجماعاتِ نادرٌ؛ كالقَسَامَةِ وشِبْهِها، والتلبُّسُ لها قليلٌ في الأفراد، ويتمكَّنُ المؤمنُ ممَّا تَعُمُّ به البَلْوى أنْ يُقِيمَهُ ويَقضِيَ به عَلَى نفسِهِ ومَن معَه؛ كعُقُودِ النِّكاحِ والمواريثِ، والطَّلاقِ والعِدَد، والمعامَلاتِ؛ فهو قادرٌ غالبًا عَلَى عدمِ التلبُّسِ بالحُكْمِ المخالفِ لحُكمِ اللهِ.
وأمَّا ما يُوجِبُ الحدودَ والعقوبات، فالأصلُ عدمُ وقوعِها مِنَ المؤمن، وإنْ وقعَت منه لم يقل أحدٌ مِن العلماءِ: إنَّ مِن الكفرِ تَرْكَ المسلِمِ المحكومِ لإقامةِ الحدِّ عَلَى نفسِه، وتَرْكَ رفعِ أمرِ مَن أصابَ حدًّا مِن أهلِهِ للسُّلْطانِ القائمِ بأمرِ اللهِ عندَ وجودِه؛ فكيفَ عندَ عدمِ وجودِه؟ !
وإنَّما نصوصُ الوحي وكلامُ العلماءِ في مسألةِ نزولِ المُتحاكِمِ مختارًا لغيرِ حُكْمِ الله، وكذلَك حُكْمُ السلطانِ بغيرِ حُكمِ اللهِ وتشريعِه.
الحالةُ الثانيةُ: إنْ كانتِ الأحكامُ المبدَّلةُ عن حُكمِ اللهِ في بلدِ المُسلِمينَ تَعُمُّ بها البلوى لعمومِ الناسِ؛ كالإلزامِ بها والمُعاقَبَةِ عَلَى تركِها
فلا يَسْلَمُ مِنها جمهورُهم، فلا ينبغي أن يكونَ في وجوبِ الهجرةِ مِن تلكَ البلدِ خلافٌ، ولو كان أكثرُ أهلِها مُسلِمِينَ.
وأمَّا الحاكمُ المشرِّعُ غيرَ شرعِ الله، المُحلِّل لِمَا حرَّمَ اللهُ، والمحَرِّمُ لِمَا أحَلَّ اللهُ، فليس بمسلمٍ تُنْزَّلُ عَلَيْهِ نصوصُ ولاةِ الأمرِ في الإِسلام، ويجبُ عَلَى المُسلِمينَ عزلُهُ إنْ قَدَرُوا عيه، وإن عَجَزوا فلا بيعةَ له وإن نزَلُوا تحتَ سُلْطانِه وتغلُّبِه.
ولا يجبُ عليهم أن يتحوَّلُوا عن أرضِهم لأجلِه؛ بشرطِ أنْ يُظهِروا الدِّينَ، ويُقيموا شَعائِرَهم في أرضِهم، ويأمُروا بالمعروفِ ويَنهَوْا عن المُنكَرِ.
وقد تجبُ الهِجْرةُ عَلَى قومٍ أو أفرادٍ مِن بلدٍ دون غيرِهم إلى بلدٍ آخرَ يَحفَطُ دينَهم، ويُظهِرونَ فيه الشعائر؛ لأنَّهم خُصُّوا بالأذيَّةِ والقهر، كما أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَن معَهُ في مَكَّةَ بالهجرةِ إلى الحبشة، ولم يخرُجْ هو وآخَرونَ معَه؛ لأنَّه يجدُ له مَنَعةً مِن ربِّه، وشوكةً مِن قومِه؛ كبني هاشمٍ، فأمَرَ بعضَ مَن لا يجدُ منَعةً بالهجرة، ممَّن يَنالُهم العذابُ ومَن قد تَصِلُ إليهم يدُ المشرِكينَ، فخرَجَ في شهرِ رجبٍ بعدَ البعثةِ بخمسِ سنينَ؛ عثمانُ بنُ عفَّانَ وزوجتُهُ رُقَيَّةُ بنتُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بِضْعةَ عشَرَ رجلًا وامرأةً، فتَبِعَتْهم قريشٌ إلى البحرِ لمَّا علِمَت بهم، فرَكِبُوا السفينةَ قبلَ أن يُدْرِكُوهم.
وسبَبُ هِجْرتِهم: حفظُ دينِهم، وإقامةُ شريعتِهم، وعِصْمةُ دمائِهم؛ فما كانوا يَستطيعونَ الصلاةَ عدَ البيت، فأرادُوا إقامةَ الدينِ وحِفْظَ الأنفُسِ؛ كما قالتْ أمُّ سلَمةَ؛ "لمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الحَبَشَة، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمَّنَا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ"(1).
(1) أخرجه أحمد (1740)(1/ 201)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 301)، وابن هشام في "السيرة"(1/ 334).