الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراتٍ: خمسًا في الذَّهابِ، وخمسًا في الإيابِ، وإنْ لم تَفْتِنْ غيرَها، فتَنَتْ نفسَها، والمرأةُ مجبولةٌ على القناعةِ بتأثيرِها في الرجلِ أكثرَ مِن قناعةِ الرجلِ بتأثيرِهِ في المرأةِ، فلا تخلُو مِن فتنةِ الرجلِ أو فتنةِ نفسِها؛ فقد روى أبو الأحوصِ، عن ابنِ مسعودٍ؛ قال:"إِنَّ المَرْأةَ عَوْرَةٌ، وَإِنَّهَا إِذَا خَرَجَت مِن بَيْتِهَا، اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَان، فَتَقُولُ: مَا رَآنِي أَحَدٌ إِلَّا أَعْجَبْتُهُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ إِلَى اللهِ إِذَا كانت فِي قَعْرِ بَيْتِهَا"(1).
* * *
* قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44].
امْتَنَّ اللهُ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم بأنْ عَلَّمَهُ - مِن غَيْبِ الماضِينَ - تفصيلَ حالِ نبيِّ اللهِ عيسى وأُمِّهِ ووالدَيْها وكافِلِيها ونشأتِها وعبادتِها ورِزْقِه لها، ثمَّ بشارتِها بولادتِها لعيسى، ثمَّ قَصَّ عليه زمانَهُ ومكانَه، وحالَ أُمِّه مع الناسِ بعدَه، فهذا غيبٌ لا يُدرِكُه أحدٌ ولو كان في زمانِهم، وهذا كلُّه إبطالٌ لعقيدةِ النصارى في عيسى؛ لِيكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عِلمٍ بدقائقِ حالِ عيسى ونشأتِه وأُمِّه، وليكونَ على بيِّنةٍ ببطلانِ فِرْيَتِهم وكَذِبِهم على اللهِ.
أحكامُ القُرْعةِ:
وفي قول تعالى {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} دليلٌ على جوازِ العملِ بالقُرْعَةِ، وأنَّها مُلزِمةٌ لِمَنْ رَضِيَ بها وتخاصَمَ إليها، خلافًا لبعضِ الحنفيَّةِ في قولِ
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(9481)(9/ 295).
مَن قال بالقُرْعةِ منهم، جعَلَوها غيرَ مُلزِمةٍ؛ وإنَّما هي لتطيب النفوسِ، ورفعِ تهمةِ المحاباة في القِسْمةِ.
ومِن ذلك: قَولُهُ تعالى في الصَّافَّاتِ: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [139 - 141] ، والمُساهَمةُ ها القُرْعةُ.
وهذانِ الموضِعانِ مِن القرآنِ أصلٌ في جوازِ القُرْعةِ ومشروعيَّتِها.
والقُرْعةُ في كفالةِ مريمَ: وضعُهُمْ لأقلامِهم على صفةٍ اللهُ أعلمُ بها، فليس في الباب شيءٌ مرفوعٌ، وقال غيرُ واحدٍ مِن السلفِ: إنَّ المرادَ بالأقلامِ أقلامُ الَكتابةِ، وقيل: هي القِدَاحُ، وقيل: هي العِصِيُّ.
فقيل: إنَّهم رمَوُا القِدَاحَ في النهرِ، فانْحَدَرَتِ القِدَاحُ مع جِرْيَةِ الماءِ، وبَقِي قِدْحُ زكريَّا مُرْتَزًّا صاعدًا.
ولا يَقترِعُ الناسُ إلا عندَ التنازُعِ وتساوِي الحقوقِ واشْتِبَاهِها، وقد تَرْجَمَ البخاريُّ على ذلك بقولِه:(باب القُرْعةِ في المشكِلاتِ وقولِ اللهِ عز وجل: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ})(1).
وأمَّا عندَ ظهورِ صاحِبِ الحقِّ، فلا قُرْعةَ؛ لأنَّ القرعةَ شُرِعَتْ لرفعِ النِّزاع والخصومةِ، وشُحِّ النفوسِ وطمعِها؛ وهذا لا يكون إلا عندَ تساوِي الحقِّ واشتباهِهِ بينَ مُدَّعِيهِ، وأمَّا عندَ ظهورِ صاحِبِ الحقِّ، فالقرعةُ انتزاعٌ للحقِّ بالباطلِ، وأكلٌ له بغيرِ حقٍّ.
وإنَّما تنازَعَ بنو إسرائيلَ في مريمَ؛ لأنَّها بنتُ سيِّدِهم عِمْرانَ، فكل واحدٍ طَمِعَ في كفالتِها والسبقِ بحضانتِها احتسابًا وَجَاهًا.
والقُرْعةُ جائزةٌ، بل قد تُستحَبُّ وتجبُ إذا كان النِّزاعُ لا يُرفَعٌ إلا
(1)"صحيح البخاري"(3/ 181).
بها، فما لا يُدفَعُ المُحرَّمُ إلا به فهو واجبٌ إذا لم يكنْ محرَّمًا هو في ذاتِه، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجبٌ.
وبجوازِ القُرْعةِ يقولُ السلفُ؛ وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وعن أبي حنيفةَ في ذلك قولانِ:
الأولُ: التحريمُ؛ لمشابهتِها للأَزْلامِ، وبهذا قال أصحابُه، وذهَبَ إلى هذا جماعةٌ مِن الكوفيِّينَ وقالوا بنسخِ القرعةِ.
وقيَّدَه الطحاويُّ: بأنَّ القرعةَ المنسوخةَ: التي تقومُ مقامَ البيِّنةِ القاطعةِ في الأحكامِ، لا القُرْعةُ التي تكونُ لتطييبِ النفوسِ كالقرعةِ بين الزوجاتِ في السفرِ ونحوِ ذلك، وعلَّلَ ذلك: بأنَّه يجوزُ له أنْ يُسافِرَ دونَهنَّ، وليس لهنَّ حقٌّ في أصلِ الصُّحْبةِ، وإذا جاز تَرْكُهنَّ جميعًا، فيجوزُ له أنْ يترُكَ بعضَهنَّ.
وفي هذا الإطلاقِ نظرٌ؛ فإنَّ الزوجاتِ إذا اسْتَوَيْنَ مِن جهةِ القدرةِ على السفرِ والقيامِ بحقِّ الزوجِ فيه، وجَبَ الإقراعُ بينَهنَّ، وإذا اخْتَلَفْنَ في الحالِ، فيُفرَّقُ بينَ المريضةِ والصحيحةِ، ومَن لا تَجِدُ مَن يَخلُفُها في ذُرِّيَّتِها ومَن تجدُ مَن يخلُفُها؛ وهذا قول جمهورِ العلماءِ؛ قال به أبو حنيفةَ على الاستحبابِ، وإلى الوجوب ذهَبَ الشافعيُّ وأحمدُ، وهو أحدُ أقوالِ مالكٍ، وقد فعَلَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع أنَّ القَسْمَ عليه ليس بواجبٍ على الأصحِّ، وهو على غيرِه واجبٌ؛ لأنَّ السفرَ بواحدةٍ منهنَّ بلا قرعةٍ ميلٌ وتفضيلٌ ومدعاةٌ للخصومةِ والنزاعِ وقطيعةِ الأرحامِ بينَ الذُّرِّيَّةِ.
ومَن أقرَعَ بينَ نسائِهِ، فسافَرَ بواحدةٍ منهنَّ، لا يجبُ عليه أنُ يَقْسِمَ لمَن غاب عنهنَّ مِثْلَ أيامِ سفرِه؛ لأنَّه لا معنى للقرعةِ إذًا، فهي تَفصِلُ في الحقوقِ المشترَكةِ، ومَن أخَذَ واحدةً بلا قرعةٍ، وجَبَ عليه أن يَقسِمَ لمَن غابَ عنهنَّ مِثلَ أيامِ سفرِهِ أو يَتَحَلَّلَ منهنَّ.
القولُ الثاني: ما نقَلَه ابنُ المنذرِ عن أبي حنيفة: أنَّه جوَّزَها، وقال: القُرْعةُ في القياسِ لا تستقيمُ، ولكنَّا ترَكْنا القياسَ في ذلك، وأخَذْنا بالآثارِ والسُّنَّةِ.
والعملُ بالقرعةِ بلَغَ التواتُرَ في السُّنَّةِ، وهو قطعيٌّ في الكتابِ؛ قال أبو عُبَيْدٍ:"وقد عَمِلَ بالقرعةِ ثلاثةٌ مِن الأنبياءِ: يونُسُ وزكريَّا ونبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم".
وثبَتَتِ القُرْعةُ في السُّنةِ في أحاديثَ كثيرةٍ، في "الصحيحينِ"، وغيرِهما:
منها: حديثُ عائشةَ؛ قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أرَادَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ؛ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بها مَعَهُ"(1).
وجاء مِن حديثِ زينبَ وغيرِها.
ومنها: حديثُ أبي هريرةَ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لم يَجِدُوا إِلَّا أن يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ، لَاسْتَهَمُوا)؛ رواهُ الشيخانِ (2).
ومنها: حديثُ النُّعْمانِ بنِ بَشِيرِ مرفوعًا: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ
…
)؛ الحديث؛ رواهُ البخاريُّ وغيرُه (3).
ومنها: حديثُ أمِّ سلمةَ؛ قالتْ: أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوَارِيثَ لَهُمَا، لم تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إِلا دَعْوَاهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَبَكَى الرَّجُلَانِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَقِّي
(1) أخرجه البخاري (2593)(3/ 159)، ومسلم (2770)(4/ 2129).
(2)
أخرجه البخاري (615)(1/ 126)، ومسلم (437)(1/ 325).
(3)
أخرجه البخاري (2493)(3/ 139).
لَكَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(أَمَّا إِذْ فَعَلْتُمَا مَا فَعَلْتُمَا، فَاقْتَسِمَا، وَتَوَخَّيَا الحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ تَحَالَّا)(1).
ومنها: حديثُ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ: "أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لم يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا"؛ أخرَجَه مسلمٌ وغيرُه (2).
ومنها: ما رواهُ البخاريُّ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمِ اليَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي اليَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ"(3).
ومنها: ما جاء عن أبي هريرةَ: "أنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَابَّةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى اليَمِينِ"(4).
ورُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقرَعَ عامَ خَيْبَرَ، وقد كان الناسُ ملَكُوا مِلْكًا مُشَاعًا، فلمَّا كانتِ القرعةُ، زال مِلْكُ كلِّ واحدٍ منهم عن بعضِ ما كان يَملِكُ، وملَكَ شيئًا لم يكنْ بمِلْكِهِ على الكمالِ.
وجاء عن خارجةَ بنِ زيدِ بنِ ثابتٍ، عن أمِّ العَلَاءِ الأنصاريَّةِ، قالتْ: نزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمُهاجِرونَ معه المدينةَ في الهجرةِ، فتَشَاحَّتِ الأنصارُ فيهم أنْ يُنزِلُوهُم في منازلِهم حتى اقترَعُوا عليهم، فطارَ لنا عثمانُ بنُ مَظْعونٍ على القُرْعةِ؛ تعني: وقَعَ في سَهْمِنا (5).
(1) أخرجه أبو داود (3584)(3/ 301).
(2)
أخرجه مسلم (1668)(3/ 1288).
(3)
أخرجه البخاري (2674)(3/ 179).
(4)
أخرجه أحمد (10787)(2/ 524)، وأبو داود (3618)(3/ 311)، وابن ماجه (2329)(2/ 780).
(5)
"الطبقات الكبرى"(3/ 396 ط. دار صادر). وانظر موضع الشاهد في: "صحيح البخاري"(1243)(2/ 72).