الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدُلُّ على ذلك قولُهُ تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]؛ فسَّرَ ابنُ عبَّاسِ وابنُ عُمَرَ الإحصانَ: بالحُرِّيَّةِ.
والقياسُ عندَ أبي حنيفةَ: أنَّ مَن قَدَرَ على حُرَّةٍ كتابيَّةٍ، لم يَجُزْ له نِكاحُ أَمَةٍ كتابيَّةٍ؛ لأنَّه لا يخافُ العَنَتَ بنِكاحِ الكتابيَّةِ الحرةِ؛ وهذا قياسًا على الحرةِ مع الأَمَةِ.
مهرُ زواجِ الأَمَةِ:
ويجبُ للأَمَةِ مهرُها في زواجِها بما يُعرَفُ عندَ الناس، فلا تُبخَسُ لكونِها أمَةً، لقوله تعالي:{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وظاهرُ الآيةِ: أنَّ الصَّدَاقَ للأَمَة، لا لسيِّدِها؛ وبه قال مالكٌ، خلافًا للجمهورِ؛ لأنَّ الأَمَةَ لسيِّدِها، وإنْ مَلَكَتْ بعملٍ أو إجارةٍ أو حِرْفةٍ، فهو لسيِّدِها؛ لأنَّه يَملِكُها ومالَها، وألحَقُوا المهرَ بغيرِه مِن المالِ والمنافعِ.
وقولُه تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} : اختُلِفَ في المرادِ بالإحصانِ؛ فابنُ مسعودٍ يرَى أنَّه الإسلامُ (1)، وابنُ عبَّاسِ يرَى أنَّه النِّكاحُ (2)، وبقولِ ابنِ مسعودٍ قال جماعةٌ، كالشَّعْبيِّ والحسنِ والنخَعيِّ والسُّدِّيُ والأعمشِ والشافعيِّ (3).
العقوبةُ على زنى الأَمَةِ:
وعامَّةُ العلماءِ على أنَّ الأَمَةَ لا رَجْمَ عليها حتى تتزوِّجَ بعدَ حُرِّيَّتِها، ولو تزوَّجَتْ وهي أَمَةٌ، ثمَّ أُعتِقتْ، لم يُعْتَدَّ بزواجِها حالَ رِقِّها إلَّا إنِ استمَرَّتْ عليه وهي حُرَّةٌ؛ لأنَّ العقوبةَ تكونُ على الزِّنى، والزِّنى لا بدَّ أنْ يَسْبِقَهُ إحصانٌ وحريَّةٌ، والرجمُ لا يُنَصَّفُ؛ فاللَّهُ يقول: {فَعَلَيْهِنَّ
(1) سبق تخريجه.
(2)
"تفسير الطبري"(6/ 611).
(3)
سبق تخريجه.
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}؛ فدَلَّ على أنَّ العقوبةَ محصورةٌ بما يُنصَّفُ، وهو الجَلْدُ، خلافًا لأبي ثَوْرٍ، فقد قال بأنَّ الأَمَةَ المُحصَنةَ تُرجَمُ.
ولا خلافَ عندَ العلماءِ: أنَّ جَلْدَها لا يَزِيدُ على الخمسينَ؛ لأنَّه الحَدُّ المنصوصُ عليه في سورةِ النورِ للحُرَّةِ؛ كلما سيأتي.
والسُّنَّةُ لم تُفرِّقْ بينَ الأَمَةِ المتزوِّجةِ وغيرِها في الزِّنى؛ فنصَّتْ على عقوبةٍ واحدةٍ ولو تكرَّرَ الزِّنى، مِن غيرِ تفصيلٍ في الحالِ؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ؛ قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ئُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ)(1).
وعقوبةُ الزِّنى على الأَمَةِ حدٌّ، لا تعزيرٌ؛ لقولِه:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} عندَ عامَّةِ السلفِ؛ وإنَّما الخلافُ عندَهم في حدِّ الأَمَةِ: هل يجبُ ذلك بعدَ زواجِها أو لا فرقَ بينَ المتزوِّجةِ وغيرِ المتزوِّجةِ مِن الإماءِ؟ :
فمَن فسَّر الإحصانَ بالنِّكاحِ في الآيةِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، فرَّقَ بينَ المتزوِّجةِ وغيرِها، وجعَلَ الحَدَّ على المتزوِّجةِ فحَسْبُ، وعلى غيرِها التعزيرَ والتأديبَ والزجرَ والتثريبَ؛ وبهذا قال ابنُ عبَّاسٍ كما سبَقَ، وبه قال طاوسٌ وغيرُه.
والأظهَرُ: وجوبُ الحدِّ مطلقًا؛ ففي" الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ، وزيدِ بنِ خالدٍ" أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ
(1) أخرجه البخاري (2234)(3/ 83)، ومسلم (11703)(3/ 1328).
تُحْصِنْ؟ قَالَ: (إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ)(1).
وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعة، وعندَهم يُقاسُ العبدُ على الأَمَةِ؛ خلافًا لأهلِ الظاهرِ.
وقولُه لعالى بعدَ ذِكْرِ عقوبةِ الحدِّ: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ذلك لأنَّ الآيةَ لدفعِ مُوَاقَعَةِ الذنبِ؛ ببيانِ الأحكامِ وسَنِّ الحدود، وإنْ لم تَضْبِطْهُ الحدودُ وتجاوَزَ الأحكامَ، فبابُ التوبةِ مفتوحٌ له؛ فاللهُ غفورٌ للمذنِبِ المتجاوِز، رحيمٌ به.
وفي الآيةِ: ذِكرٌ لغُفرانِ اللهِ ورحمتِه بعدَ حدِّ الزِّنى للأَمَةِ؛ إشارةً إلى أنَّ الحدودَ كفَّارةٌ لأصحابِها، ولو لم يكنْ في ذلك توبةٌ خاصَّةٌ بذاتِ الذنب؛ لأنَّ اللهَ لا يَجْمَعُ على عبدِه عقوبتَيْنِ؛ ففي "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ عُبَادَةَ؛ قال صلى الله عليه وسلم:(وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ)(2).
وقيل: بأنَّ الحدودَ لا تُكفِّرُ الذنبَ حتى يُتابَ منه؛ استدلالًا بما رُوِيَ مِن حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: (مَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ لأَهْلِهَا أَمْ لَا! )(3)، وهو حديثٌ مُنكَرٌ أَعَلَّهُ البخاريُّ؛ حيثُ أخرَجَ خلافَهُ؛ بل قال: لا يَثْبُتُ.
والصوابُ فيه الإرسالُ مِن مُرسَلِ الزهريِّ (4).
* * *
(1)
أخرجه البخاري (2153)(3/ 71)، ومسلم (1703)(3/ 1329).
(2)
أخرجه البخاري (6801)(8/ 162).
(3)
أخرجه البزار في "مسنده"(8541)(15/ 176)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 36) و (2/ 14 و 450)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 329).
(4)
"التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 153).