الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَسيِرًا، وَلَا قَطَعتُم وَادِيًا) (1)؛ فهذا يَشترِكونَ فيه جميعًا، ويَعلَمُ القاعدُ حصولَهُ منه يقينًا، لكنه لا يَعلَمُ شهادته ولا إثخانَهُ وأسرَهُ لعدوِّه، لذا كان الأصلُ فَضْلَ المجاهِدِ على القاعِدِ في الإسلامِ مِن هذه الوجوهِ.
مراتبُ المجاهِدِين:
ثم ذكَرَ الله بعدَ ذلك قَدرَ التفضيلِ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} ؛ وهذا تفسيرٌ للدرجةِ المذكورةِ قبل: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} .
ومراتبُ المجاهِدين دَرَجاتٌ، فليسوا سواءً؛ بل هم بحسب ما خرَجُوا به، وبحسَبِ سرائرِهم، وبحسَب مواضعِ قَتلِهم، ونوعِ عدوِّهم، ونوعِ قتالِه؛ فقتيلُ البحرِ يختلِفُ عن قتيلِ البَرِّ، وقتيلُ الدَّفْعِ يَختلِفُ عن قتيلِ الطَّلَبِ، وقتيلُ الدفْعِ عنِ الدِّينِ يَختلِفُ عن قتيلِ الدَّفْعِ عنِ النفس والمالِ والعِرْض، وقتيلُ الدفعِ عنِ العِرْضِ يَختلِفُ عن قتيلِ الدفعِ عنِ المالِ.
وقتيلُ الفتحِ للأرضِ المبارَكةِ ليس كقتيلِ فتح غيرِها، وقتيلُ الخوارجِ ليس كقتيلِ البُغاة، ومَن رَمى بسهمٍ يَختلِفُ عمَّن رمى بسهمَينِ، ومَن قاتَلَ يومًا ليس كمَن قاتَلَ أيامًا.
وأَدنى درجاتِ المجاهِدِينَ مرتبةٌ عظيمةٌ، وفي "البخاري"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:(إِنَّ فِي الجنةِ مِئةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الله، مَا بَينَ الدَّرَجَتَينِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)(2).
(1) أخرجه البخاري (4433)(6/ 8) عن أنس، ومسلم (1911)(3/ 1518) من جابر.
(2)
أخرجه البخاري (2790)(4/ 16)، وأخرجه مسلم (1884)(3/ 1501) بنحوه عن أبي سعيد.
وقد روى أحمدُ والنسائيُّ؛ مِن حديثِ شُرَحبِيلَ بنِ السِّمْطِ، عن كعبِ بنِ مرَّةَ، وروى ابنُ أبي حاتمٍ، عن أبي عبيدةَ، عن أبيه ابنِ مسعودٍ؛ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَن بَلَغَ بِسَهْمٍ، فَلَهُ دَرَجَةٌ)، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الدَّرَجَةُ؟ قَالَ:(أمَا إنها لَيسَت بِعَتَبَةِ أُمِّكَ؛ مَا بَينَ الدَّرَجَتَينِ مِئَةُ عَامٍ)(1).
وقوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ؛ الحسنى: هي الجنَّة، ويُؤجَرُ القاعدُ الذي لم يتعيَّن عليه الجهادُ بمقدارِ نفعِهِ في قعودِه، وخلافتِهِ مكانَ المجاهِدِينَ، وأثَرِهِ في الناس، وأمَّا القاعدُ المعذورُ عن الجهاد، وهو فرضٌ عليه قبلَ عُذْرِه، أو ليس بفَرضٍ عليه، لكنه يُريدُهُ وهو عاجز عن فعلِه، فيُؤجَرُ بمقدارِ نيَّتِهِ وما يَعلمُهُ اللهُ مِن قلبِهِ مِن حبِّ الجهادِ وأهلِه، وما يجدُهُ في نفسِهِ مِن حب زوالِ عُذرِه.
وَيختلِفُ هذا عنِ المعذورِ الذي يفرَحُ بعذْرِه، فيختلفُ عمَّن يتمنَّى زوالَ عذرِهِ وَيحزَنُ لوجودِه؛ كمَن يُكسَر ويفرَحُ لكَسرِه؛ ليَترُكَ صلاةَ الجماعة، فهذا لا يُؤتى أجر من صلَّى الجماعةَ وهو يتمنَّى نزولَ عذرٍ عليه ليمنَعَهُ مِن الصلاةِ.
ودرجاتُ المجاهِدِينَ الكثيرةُ هي التي بَيّنها اللهُ بعدُ بقوله {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} .
وفي هذا: دليلٌ على أن الجهادَ مِن أسبابِ غُفرانِ الذنوب، ونزولِ رحمةِ اللهِ على عبادِه؛ فهو موضعُ الغُفْرانِ ومنازل الرَّحمةِ.
* * *
(1) أخرجه أحمد (18063)(4/ 235)، والنسائي (3144)(6/ 27)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 1044).
وصَفَ الله مَن ترَكَ الهِجرةَ مِن بلدِ كفرٍ إلى بلدِ الإسلامِ بظُلمِ النفس؛ وذلك أنَّ في البقاءِ بينَ ظَهرَانَيهِمْ تضييعًا لحدودِ اللهِ وأحكامِه، ولو أُقيمَتِ الشرائع، فربما كان في البقاءِ بين ظَهرانَيهِم تكثيرٌ لسَوادِهم، فإذا نزلَت نازلةُ حربٍ بالكافِرِين، استَنفَرُوا معهمُ المُسلِمِنَ أو أكرَهُوهم.
روى البخاري؛ مِن حديثِ عِكرِمَةَ، عنِ ابنِ عباسٍ: "أن نَاسًا مِنَ المُسلِمِينَ كَانُوا مَعَ المشرِكِينَ يُكَثرُونَ سَوَادَ المُشرِكِينَ، عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَأتِي السهمُ فَيرمَى بِه، فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ، فَيَقتلُهُ، أَوْ يُضرَبُ فيقتَلُ؛ فأنزَلَ الله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (1).
وقال ابنُ إسحاقَ: "إن الذين قال الله فيهمْ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} خمسة فِتيةٍ مِن قرَيش: عليُّ بنُ أميةَ، وأبو قيسِ بنُ الفاكِه، وزَمعةُ بنُ الأسود، والعاصُ بنُ منبهٍ، ونسيتُ الخامس"؛ رواهُ عبد الرزاق، عنِ ابنِ عُيَينة، عنِ ابنِ إسحاقَ (2).
وذكَرَ ابنُ جُرَيجٍ، عن عِكرِمةَ؛ أنهم عليُّ بنُ أمية، وأبو قيسِ بنُ الوليدِ بنِ المغيرة، والعاصُ بنُ منبِّهِ ينِ الحجَّاج، والحارثُ بنُ زَمعةَ (3).
(1) أخرجه البخاري (4596)(6/ 48).
(2)
"تفسير القرآن" لعبد الرزاق (1/ 172)، و"تفسير الطبري"(7/ 386)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1046)، و"سيرة ابن هشام"(1/ 641).
(3)
"تفسير الطبري"(7/ 384)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1046).