الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
ذكَرَ الله
شريعةَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ
آمِرًا بها، وربَطَ الفلاحَ بتحقُّقِها؛ فلا تُفْلِحُ أُمَّةٌ ليس فيها مُصلحونَ، وقولُهُ:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} أمرٌ بقيامِ أُمَّةٍ بشعيرةِ النصيحةِ والإصلاح، وعَطْفُ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ على الدعوةِ إلى الخيرِ مِن عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لأنَّ الأمرَ والنهيَ دعوةٌ.
شريعةُ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ:
والأمرُ في الآيةِ يتوجَّهُ إلى الراعي والرعيَّة، الحاكمِ والمحكومِ؛ أنْ يُندَبَ منهم مَن يقومُ بحفظِ هذه الشعيرةِ؛ كما يُندَبُ منهم جُبَاةٌ للزكاةِ، وقُضاةٌ للحدودِ، وأئمةٌ للقيامِ بالصلاةِ، ومؤذِّنونَ للقيامِ بالأذانِ.
فيجبُ على الحاكمِ أنْ يَصْطَفِيَ مِن أهلِ العِلم والأمانةِ والصبرِ للقيامِ بالحِسْبَة، ولو ترَكَ الحاكمُ ذلك وعطَّلَه أو قام به وقَصَّرَ في حقِّه، وجَبَ على العامةِ أنْ يَنْدُبُوا منهم مِن أهلِ العلمِ والأمانةِ مَن يقومُ بحقِّ الإصلاحِ والحِسْبَةِ؛ حتى لا يتواكَلَ الناسُ بعضُهم على بعضٍ؛ فيَنْتَشِرَ الشرُّ، ويَنقُصَ الخيرُ، وكلُّ واحدٍ يتَّكِلُ على الآخَرِ.
وجوبُ الحِسْبةِ:
وجَعْلُ الحاكمِ الحِسْبةَ في أُمَّةٍ مِن الناسِ لا يُسقِطُ تشريعَها على الكفايةِ عن الباقِينَ؛ لأنَّ تعيينَ مَن يقومُ بها يُوجِبُها عليه عَيْنًا، ولا يُسقِطُ التكليفَ عن غيرِه؛ لأنَّ الإصلاحَ والنصيحةَ مِن فُرُوضِ الأفراد، فمتى قامَ مُوجِبُها، تعيَّنَتْ؛ لِما في "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ
أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ مرفوعًا؛ قال: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا، فَلْيُغَيِّرُهُ بِيَدِه، فَإنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِه، فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ؛ وَذلك أَضْعَفُ الإِيمَانِ)(1)، فقيَّدَ رسولُ اللهِ وجوبَهُ بالرؤية، والرؤيةُ تقومُ في الأشخاص، متى رأَوُا المنكرَ، وجَبَ عليهم الأمرُ والنهيُ، ولو كان في الأمَّةِ مَن انتُخِبَ للحِسْبةِ.
وربَّما اتَّخَذَ بعضُ الحُكَّامِ تعيينَ مُصلِحينَ يقومونَ بالإصلاحِ كما يُريدُ هو، لا كما يُريدُ اللهُ؛ فيجبُ على العالِمِ إتمامُ النقصِ، وسَدُّ الخَلَلِ بعلمٍ وصبرٍ؛ لِيَتِمَّ الحقُّ، ويَثْبُتَ الدِّينُ.
ولا يدومُ تمكينُ أُمَّةٍ ليس فيها مُصلِحونَ؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]؛ فيَبتدِئُ التمكينُ لكنَّه لا يدومُ إلا بهذه الثلاثةِ: الصلاةِ والزكاةِ والإصلاحِ؛ فالصلاةُ صِلةٌ للعبدِ بربِّه، والزكاةُ صِلةٌ للعبدِ بأخِيه، والإصلاحُ حفظٌ لِحَقِّ ربِّه وحقِّ أخِيه.
والإصلاحُ ركنٌ في الإِسلامِ؛ كما جاء في خَبَرِ حُذَيْفةَ موقوفًا ومرفوعًا: (الإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الإِسْلَامُ سَهْمٌ، وَالصَّلَاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَالحَجُّ سَهْمٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ سَهْمٌ، وَالجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ سَهْمٌ؛ وَقَدْ خَابَ مَن لَا سَهْمَ لَهُ)(2)؛ والصوابُ الوقفُ.
* * *
(1) أخرجه مسلم (49)(1/ 69).
(2)
أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(413)(1/ 329)، وعبد الرزاق في "مصنفه"(5011)(3/ 125)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(19561)(4/ 230).
* قال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117].
ضرَبَ الله مثلًا لنفقةِ الكافرِ أنَّه لا يَتقبَّلُ منها شيئًا، والصِّرُّ هو البَرْدُ الشديدُ؛ قاله ابنُ عباسٍ وعكرمةُ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ وغيرُهم (1).
ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ: أنَّه النارُ (2).
وسببُ عدمِ انتفاعِهم هم أنفسُهم؛ فاللهُ لم يَظلِمْهم، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، فهم لم يُقدِّموا العملَ للهِ وحدَهُ، وإنْ أخلَصُوا فيه لربِّهم، فهم لم يُقدِّمُوهُ لله؛ وإنَّما لغيرِه مِن الأربابِ مِن صنمٍ أو وثنٍ أو سلطانٍ، أو طلبًا لِلجاهِ والمَنزِلةِ؛ كما كان الناسُ يَفعلونَ في الجاهليَّةِ.
وهذه الآيةُ نظيرُ قولِهِ تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18].
وكلُّ مَن قدَّمَ عملًا في دُنياهُ لدُنياه، لم يُؤجَرْ عليه في أُخرَاه؛ ففي "الصحيحِ"، عن عائشةَ؛ قالتْ: قلتُ: يا رسولَ الله، ابنُ جُدْعَانَ كان في الجاهليَّةِ يَصِلُ الرحِمَ، ويُطعِمُ المسكينَ، فهل ذاك نافِعُهُ؟ قال:(لَا يَنْفَعُهُ؛ إِنَّهُ لم يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(3).
ومِثلُ هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لابنةِ حاتمٍ الطائيِّ سَفَّانَةَ، حينَما ذكَرَتْ مكارمَ
(1)"تفسير الطبري"(5/ 705، 707)، و"تفسير ابن المنذر"(1/ 343، 344)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 741).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 741).
(3)
أخرجه مسلم (214)(1/ 196).