الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حضورِه، ويَعْصُونَهُ في غيابِه؛ كما قال تعالى قبلَ ذلك:{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81].
الصدقُ مع الأمير في الظاهِرِ والباطِنِ:
ومَن أظهَرَ للأميرِ خلافَ ما يُخفِيهِ، فقد وقَعَ في شُعْبةٍ مِن النِّفاقِ؛ لأنَّ هذا يُفسِدُهُ ويُفسِدُ البلدَ التي يتولَّاها، ولا يجوزُ للناسِ والعلماءِ خاصَّةً أنْ يُظهِرُوا للسُّلْطانِ ما يُفهَمُ منه الانقيادُ له والرِّضا عنه وعلى فِعْلِه، وإقرارُهُ عليه، وهم يضمرون خلافَ ذلك؛ لأنَّ هذا في الدِّينِ نِفاقٌ، وفي السياسةِ خديعةٌ، وهو يُخالِفُ النصيحةَ في الدِّينِ؛ كما في حديثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ في "الصحيحِ"؛ قال صلى الله عليه وسلم:(الدِّينُ النَّصِيحَةُ)، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)(1).
ومَن عَجَزَ عن النصيحة، فلا يَقْرَبِ السُّلْطانَ ولا يُجالِسْهُ؛ لأنَّ مُجالَسَةَ العالِمِ له مع عدمِ نُصْحِهِ إقرارٌ، خاصَّةً عندَ تَكْرارِها ودوامِها، ومِن أكثَرِ ما يُفسِدُ على الناصِحِينَ العلماءُ الذين يُكْثِرونَ الدخولَ على السُّلْطانِ مع سكوتِهم، فإنْ نُصِحَ السُّلْطانُ مِن غيرِهم، استحضَرَ إقرارَ الساكِتِينَ، وحَمَلَ نُصْحَ المُصلِحِينَ على مُنازَعةِ الأمرِ والتربُّصِ والفِتْنةِ.
ويَعظُمُ شرُّ الساكِتِينَ على الباطلِ إنْ مَدَحُوا السُّلْطانَ على الخيرِ، وسَكَتُوا عن الشرِّ، وظَنُّوا أنَّ سكوتَهم على الشرِّ ليس إقرارًا، وأنَّ مَدْحَهم له على الخيرِ حقٌّ؛ وإنَّما يُفتَنُ السُّلْطانُ الذي يُمدَحُ ولا يُنصَحُ ولو كان المدحُ بحقٍّ.
وأشدُّ ذلك: أنْ يَمْدَحَ العالِمُ الحاكمَ على الشرِّ قولًا وفعلًا؛ وهذا مِن تزيين الباطلِ في صورةِ الحقِّ؛ وهو مِن أفعالِ المنافقين، لا العلماءِ الراسخين ولا الفاقهين.
(1) أخرجه مسلم (55)(1/ 74).
وإنَّما حَرُمَ على العالِمِ والجاهلِ مُجالَسَةُ الحاكِمِ والإظهارُ له خلافَ ما يُبطِنُه؛ كما في حالِ المُنافِقينَ في قولِهِ: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81]؛ لأنَّ الحاكِمَ يَسُوسُ الأُمَّةَ بالأمرِ والنهي، وإظهارُ الطاعةِ له وإخفاءُ زَلَّتِهِ عنه وكُرْهِ الرعيَّةِ له: يجعَلُهُ يَجْسُرُ على بعضِ الأوامرِ والنَّوَاهِي في السياسةِ والجِهَادِ والأموالِ، ويَظُنُّ أنَّه ثابتٌ بثباتِ المَحْكُومِينَ معه الذين يُنافِقُهُ علماؤها، فإنْ أمَرَهم بأمرٍ أو نَهَاهُم عن أمرٍ لا يُطِيقُونَهُ، فلرُبَّما فاجَؤُوهُ بالعِصْيانِ والتمرُّدِ والخروجِ، ولكنْ لو عَلِمَ منهم مقامَهُ فيهم في ميزانِ الحقِّ والباطلِ، عَرَفَ قَدْرَ ثباتِهِ فيهم وطاعتِهِمْ له، فأصلَحَ نفسَهُ واستصلَحَ غيرَهُ، ولم يأمُرْ بما لا يُطاقُ، ولم يَجسُرْ على فعلِ ما لا يُتابَعُ عليه، ؛ لأنَّه يَعرِفُ ضَعْفَ وَلاءِ رعيَّتِه، وإنْ عَرَفَ سببَ ضعفِ ولائِهِمُ، استصلَحَهُ وقَوَّمَهُ؛ لتَقْوَى شوكتُهُ فيهم بوَلَاءِ رعيَّتِهِ له، وقد روى الطَّبَرَانيُّ؛ مِن حديثِ مجاهدٍ: أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتُمْ وَأَبُو أُنَيْسٍ - يَعْنِي: الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ -؟ قَالَ: نَحْنُ وَهُوَ إِذَا لَقِينَاهُ، قُلْنَا لَهُ مَا تُحِبُّ، وَإِذَا وَلَّيْنَا عَنْهُ قُلْنَا غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَعُدُّ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ النِّفَاقِ (1).
وقد كان الضحَّاكُ بنُ قَيْسٍ أبو أُنَيْس واليًا على الكوفةِ ودِمَشْقَ، وأكثرُ ثورةِ الشعوبِ على الحُكَّامِ بسببِ تصنُّعِ علمائِهِم وعُرَفَائِهِم ونُقَبَائِهِم مع الحُكَّامِ، فيُبْدُونَ لهم مِن الرضا خلافَ ما يُخْفُونَ مِن السُّخْطِ، ومِن الحُبِّ خلَافَ ما يُخْفُونَ مِن الكُرْهِ، ومِن الطاعةِ خلافَ ما يُخْفُونَ مِن المعصيةِ؛ حتى يَحمِلَ ذلك الحُكَّامَ على الثقةِ بأنفُسِهِمْ وتوهُّمِ التمكُّن، فيأمُرُونَ ويَنْهَوْنَ وربَّما يَظلِمونَ ويَبْغُونَ؛ حتى يَرَوْا مِن العامَّةِ حقيقةَ ما يُخفِيهِ عنهم بطانتُهم.
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(13489)(12/ 403).