الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: مكانُ العدوِّ مِن المُسلِمينَ؛ فإنْ كاد مقابِلًا لهم في قِبْلَتِهم، صَلَّوْا جماعةً واحدةً على الصِّفَةِ الواردة، وإن كان خَلْفَهُمْ، صَلَّوْا جماعتَيْنِ: جماعةً تحرُسُ، وجماعةً قائمةً تُصَلِّي على الصِّفاتِ الواردةِ في السُّنَّةِ.
الثالثُ: شدةُ الخوفِ وضَعْفُهُ مِن العدوِّ؛ فكلَّما كان المُسلِمونَ أكثَرَ خوفًا مِن مَيْل المشرِكينَ عليهم وخِدَاعِهم لهم، أخَذُوا بأخَفِّ الصِّفاتِ وأَيْسَرِها عليهم، وعَكسُها بعكسِها، وكثيرٌ مِن الفقهاءِ لا يَعتبِرونَ لِشِدَّةِ الخوفِ أثرًا في نُقصانِ صلاةِ الخوفِ.
صفاتُ صلاةِ الخوفِ:
وقد جاءَت صِفاتٌ متعدِّدةٌ في صلاةِ الخوف، وجِمَاعُها على هذه الصِّفاتِ:
الأُولى: أنَّ الإمامَ يَجعل الناسَ على طائفتَيْنِ؛ فيُصلِّي بواحدةٍ ركعةً والأُخرى يَحرُسونَ ظُهورَهم، فإذا قام للثانيةِ تنفصِلُ الأُولى عن الإمام، فتُتِمُّ لنفسِها ثُم تُسَلِّمُ، والإمامُ باقٍ قائمٌ في الرَّكعةِ الثانيةِ يُطِيلُ قيامَهُ، لِتُدرِكَهُ الطائفةُ الثانيةُ، فإذا سَلَّمَتِ الأُولى دخلَتِ الثانيةُ، فإذا جلَسَ الإمامُ للتشهُّدِ قامَتِ الثانيةُ تُتِمُّ لنَفْسِها؛ لتُدرِكَ الإمامَ فيَ السَّلامِ؛ لتُسلِّمَ معَهُ، وهذه الصورةُ الأشهَرُ، وبها يقولُ مالكٌ، وهي في "الصحيحَينِ"؛ مِن حديثِ صالحِ بنِ خوَّاتٍ، عن سهلِ بنِ أبي حَثْمَةَ (1) وتارَةً يَرْويها صالحٌ عمَّن صلَّى مع النبيِّ صلاةَ الخوفِ يومَ ذاتِ الرِّقَاعِ (2)، وكأنَّه يَرويها عن غيرِ واحدٍ.
وجاء نحو هذه الصِّفةِ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسِ في البخاريِّ وغيرِه (3).
وصحَّ عندَ ابنِ جريرٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ؛ مِن روايةِ عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ عنه موقوفًا، لكنْ جعَلَ الإمامَ يَننظِرُ الطائفةَ الثانيةَ جالسًا بعدَ ركعتِهِ
(1) أخرجه البخاري (4131)(5/ 114)، ومسلم (841)(1/ 575).
(2)
أخرجه البخاري (4129)(5/ 113)، ومسلم (842)(1/ 575).
(3)
أخرجه البخاري (944)(2/ 14).
الأولى حتَّى تُتِمَّ الأُولى لنَفْسِها ثم تَنصرِفَ، ثم تدخُلُ الثانيةُ مع الإمام، فيقومُ بها فيُصلِّي ركعةً، ثمَّ يسلِّمُ بها، ثمَّ تُكمِلُ بعدَهُ ولا يَنتظِرُها بسَلامِه (1).
الثانيةُ: أن يَقومَ الإمامُ بطائفةٍ ركعةً، ثمَّ تَنصرِفَ إن قام للثانيةِ تحرُسُ ولا تُسلِّمُ ولا تُتِمُّ لنَفْسِها، ثم تأتي الثانيةُ فتُصلِّي معَ الإمامِ الرَّكعةَ الأُولى لها والثَّانيةَ للإمام، وتُتمُّ بعدَه، فإنْ سلَّمَتْ رجعَت فحرَسَت، ثمَّ رجعَتِ الأُولى وقضَتْ ركعتَها الثانيةَ التي ترَكَتْها ثمَّ سلَّمَتْ.
وهذا صحَّ مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ في البخاريِّ (2)، ومِن حديثِ ابنِ مسعودٍ عندَ أحمدَ وأبي داودَ (3).
وصحَّ هذا موقوفًا عن نافعٍ عنِ ابنِ عُمرَ، رواهُ مالكٌ والبخاريُّ (4).
وجاء أيضًا عن أبي موسى الأشْعريِّ؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيْبةَ والطبريُّ (5).
وروى منصورٌ عن عُمَرَ مِثْلَ هذه الصفةِ مِن فِعْلِه، إلَّا أنَّ الإمامَ يُسلِّمُ بالثانيةِ بركعةٍ واحدةٍ لها، وركعتَيْنِ له، ثم تقومُ مقامَ الطائفةِ الأُولى فتقضي الأُولى، ثمَّ تَرجِعُ لِتقومَ مَقامَ الثانيةِ؛ لتَقضِيَ مِثلَها، فقَضاءُ الطَّائفتيْن كلُّ واحدةٍ وحدَها.
رواهُ ابنُ جريرٍ (6) وفيه انقطاعٌ، ومِثلُ هذه الصِّفةِ رواها الحارثُ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ عندَ عبدِ الرزَّاقِ (7)، وبِمثلِها صلَّى عبدُ الرحمنِ بنُ سَمُرةَ بالمُسلِمينَ بِكابُلَ؛ أخرَجَهُ البيهقيُّ في "سُننِه"(8).
وبهذه الصِّفةِ يقولُ الأوزاعيُّ وغيرُه.
(1)"تفسير الطبري"(7/ 430).
(2)
أخرجه أخرجه البخاري (942)(2/ 14).
(3)
أخرجه أحمد (3561)(1/ 376)، وأبو داود (1244)(2/ 16).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(عبد الباقي)(3)(1/ 184)، والبخاري (4535)(6/ 31).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(8290)(2/ 215) ، والطبري في "تفسيره"(7/ 435).
(6)
"تفسير الطبري"(7/ 434).
(7)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4244)(2/ 508).
(8)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 261).
وفرَّق بعضُهم بينَ حديثِ ابنِ عُمرَ وحديثِ ابنِ مسعودٍ؛ فجَعلَ حديثَ ابنِ عمرَ في قصاءِ الطائفتَيْنِ لأنفُسِهم جميعًا، وكأنَّ الإمامَ يَحرُسُهُم وحدَه، وجعَلَ حديثَ ابنِ مسعودٍ في قضاءِ كلِّ طائفةٍ وحدَها للركعةِ التي فاتَتْها، وذهَبَ إلى حديثِ ابنِ مسعودٍ الكوفيُّونَ.
ولا يَظهَرُ صراحةً قضاءُ الطائفتَيْنِ جميعًا في وقتٍ واحدٍ في حديثِ ابنِ عُمرَ؛ وهذا لا يتَّفِقُ مع الحِكْمةِ مِن مشروعيَّةِ صلاةِ الخوفِ والعدوُّ مِن خَلْفِهم، والأظهَرُ حملُ حديثِ ابنِ عُمرَ على حديثِ ابنِ مسعودٍ وغيرِه ممَّا سبَق ذِكرُه، واللهُ أعلَمُ.
الثالثةُ: كسابقتِها إلَّا أنَّ كل طائفةٍ تُصلِّي مع الإمامِ ركعةً واحدةً بلا قضاءٍ للفائتة، فهي للجماعةِ ركعةٌ، وللإمامِ ركعتانِ.
وهذا صحَّ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ؛ أخرَجَه النَّسائيُّ (1)، ومِن حديثِ حذيفة؛ أخرَجَه أحمدُ وأبو داودَ والنَّسائيُّ (2).
وجاء مِن حديثِ زيدٍ مرفوعًا مِثلُه؛ أخرَجَه عبدُ الرزَّاقِ والطَّحاويُّ وغيرُهما (3).
وهذه الصفاتُ الثلاثُ تُغلَّبُ في حالِ كونِ العدوِّ في ظهرِ المُسلِمينَ وهم يَحتاجونَ إلى حمايةِ أظهُرِهم، لا إلى وُجوهِهم.
وهذه الصفةُ الثَّالثةُ، ربَّما يُحتاجُ إليها عندَ حاجةِ الطائفتَيْنِ للوقتِ؛ إمَّا لقُرْبِ العدوِّ أو لشدَّةِ الحذَرِ منه، وقد روى غيرُ واحدٍ مِنَ السَّلفِ أنَّ صلاةَ الخوفِ ركعةٌ واحدةٌ؛ رواة مجاهدٌ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ؛ أخرَجَهُ مسلمٌ (4).
(1) أخرجه النسائي (1533)(3/ 169).
(2)
أخرجه أحمد (23352)(5/ 39)، وأبو داود (1246)(2/ 16)، والنسائي (1530)(3/ 168).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4250)(2/ 510)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 310).
(4)
أخرجه مسلم (687)(1/ 479).
رواهُ سِمَاكٌ الحنفيُّ عنِ ابنِ عمرَ؛ أخرَجَهُ ابنُ جَريرٍ (1).
وجاء عن جابرٍ؛ رواهُ يزيدُ الفقيرُ، أخرَجَهُ ابنُ جَريرٍ (2)، وأصلُه في "الصحيحِ".
وجاء عن حُذَيْفةَ بنِ اليَمَانِ؛ أخرَجَهُ عبدُ الرزَّاقِ وابنُ أبي شيبةَ والبيهقيُّ (3).
وجاء عن كَعْبٍ؛ أخرَجَه سعيدُ بنُ منصورٍ والطبريُّ (4).
ولذا كان بعضُ السَّلفِ إنْ سُئِلَ عن صلاةِ المُسايَفةِ جعَلَها ركعةً ولو بالإيماءِ؛ كالحكَمِ وحمَّادِ ينِ أبي سُلَيْمانَ ومُجاهدٍ والضحَّاك، وقال به أحمدُ.
وقد جعَلَ بعصُ الفقهاءِ صلاةَ الفجرِ في صلاةِ الخوفِ ركعةً واحدةً بكلِّ حالٍ؛ كمحمدِ بنِ نصرٍ وابنِ حَزْمٍ، وهذا التقييدُ يحتاجُ إلى نَصٍّ، ولا أعلَمُه ظاهرًا في الدَّليل، ولم يُفرِّقِ السّلَفُ بينَ الثُّنائيةِ والرُّباعيَّةِ في صلاةِ الخوفِ.
الرابعةُ: يُصلِّي الإمامُ بالمُسلِمينَ جميعًا، وَيجعلُهم صفَّينِ أو أكثَرَ، ويُتابِعونَهُ في كلِّ شيءٍ، إلَّا السُّجُودَ، فيَسجُدُ الصفُّ المتقدِّمُ مع الإمامِ والمتأخِّرُ قائمٌ يَحرُسُهم، فإذا قام الإمامُ والصفُّ المتقدِّمُ، سجَدَ الصفُّ المتأخِّرُ ولَحِقَ بالإمام، فيقومُ الجميعُ الثانيةَ معَ الإمام، ويركَعونَ معَه، فإذا جاء السُّجُودُ تقدَّمَ الصفُّ المتأخِّرُ؛ لِيَكونَ متقدِّمًا، فيأخُذُ نصيبَه مِنَ السُّجودِ معَ الإمام، ويتأخَّرُ المتقدِّمُ لِيَحُلَّ محلَّ المتأخِّر، ثمَّ إنِ انتَهى الإمامُ مِنَ السُّجود، تَبِعَهمُ المتأخِّرُ فسجَدَ وتشهَّدَ معَهم، وسلَّمَ بهم جميعًا.
(1) أخرجه الطبري في "تفسيره"(7/ 416).
(2)
"تفسير الطبري"(7/ 419).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4249)(2/ 510)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(8273)(2/ 213)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 261).
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2507)(2/ 239)، والطبري في "تفسيره"(7/ 417).
وهذا ثَبَتَ في مسلمٍ؛ مِن حديثِ جابرٍ (1).
وفي البخاريِّ؛ مِن حديثِ عُبيْدِ اللهِ بنِ عبدِ الله، عنِ ابنِ عبَّاسٍ (2)، لكنَّه جعَلَ الصفَّ الثانيَ لا يَركَعُ ولا يَسجُدُ حتَّى يَنتهِيَ الصفُّ الأوَّلُ مِن رُكوعِهِ وسجود للرَّكْعةِ الأُولى مع الإمام، وجاء عندَ الطحاويِّ مِن حديثِ عُبيدِ اللهِ به، لكنْ مِن قولِ ابنِ عبَاسٍ؛ مِثلَ حديثِ جابرٍ (3).
وعندَ أحمدَ وغيره مِن حديتِ مجاهدٍ، عن أبي عيَّاشٍ مرفوعًا (4)، ولكنَّه جعَلَ تقدُّمَ الصفِّ الثاني وتأخُّرَ الأوَّلِ قبلَ ركوعِ الركعةِ الثانيةِ لا بعدَه.
ورواهُ البيهقيُّ مِن حديثِ عِكرِمَةَ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا مِثلَه (5)، إلَّا أنَّه لم يَذكُرْ تقدُّمَ الصفِّ الآخِرِ على الأوَّل، وإنَّما ظاهرُهُ أنَّهما يَفعَلانِ الصِّفةَ كلُّ طائفةٍ في مكانِها.
الخامسةُ: يَجعلُ الإمامُ المُسلِمينَ طائفتَيْن، فيُصلِّي بكلِّ واحدةٍ وهي منفرِدةٌ ركعتَيْن، فهي للإمامِ أربعٌ، ولكلِّ طائفةٍ ركعتانِ.
وهذا صحَّ مِن حديثِ جابرٍ عندَ مسلمٍ (6)، ومِن حديثِ أبي بَكْرَةَ عندَ أحمدَ وأبي داودَ والنَّسائيِّ (7)، وفي حديثِ أبي بَكْرةَ ذكَرَ: أنَّ الإمامَ يُسلِّمُ مِن كلِّ ركعتينِ فلا يَصِلُها.
وهاتانِ الصِّفتانِ - الرَّابعةُ والخامسةً - في حالِ كونِ العدوِّ أمامَ المُسلِمينَ.
(1) أخرجه مسلم (840)(1/ 575).
(2)
أخرجه البخاري (944)(2/ 14).
(3)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 320).
(4)
أخرجه أحمد (16580)(4/ 59)، وأبو داود (1236)(2/ 11)، والنسائي (1549)(3/ 176).
(5)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 258).
(6)
أخرجه مسلم (843)(1/ 576).
(7)
أخرجه أحمد (20497)(5/ 49)، وأبو داود (1248)(2/ 17)، والنسائي (1555)(3/ 179).