الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأسبابُ الكونية التي أمَرَ اللهُ بها كثيرةٌ:
منها: الاجتماعُ؛ فإن الكثرةَ تُرهِبُ العدوَّ، وتشُدُّ مِن عزائمِ أهلِها؛ وهذا أمرٌ فِطريٌّ مؤثِّرٌ في كلِّ نفسٍ مدركةٍ ولو كانت حيوانًا؛ ففي "السُّننِ"؛ مِن حديثِ أبي الدَّردَاءِ؛ قال صلى الله عليه وسلم:(عَلَيْكُم بِالجَمَاعَةِ؛ فَإنَّمَا يأكُلُ الذئْبُ القَاصيَةَ)(1)؛ ولذا أمَرَ اللهُ بهذا السبب؛ فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وبيَّنَ أن الفُرقةَ سببٌ للهزيمةِ؛ فقال:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، فقِلَّةٌ مجتمعةٌ أقرَبُ إلى النصرِ مِن كثرةٍ متفرِّقةٍ.
ومنها: التريُّثُ وعدمُ العَجَلَةِ؛ فإن العجلَةَ تُنافي الصبرَ، فلا ينتصر أحدٌ إلَّا بصبرٍ؛ وقد قال اللهُ عن الأنبياءِ:{فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34]، وقال تعالى:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35]، وقال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].
وكثيرًا ما تُستعجَلُ النتائجُ بلا صبرٍ، فيُحرَمُ النَّاسُ النصرَ؛ فالصابرُ ولو كان على باطلٍ أقرَبُ إلى النصرِ مِن المُستعجِلِ ولو كان على حقٍّ، وربَّما يُهزَمُ الصادقُ بسببِ عَجَلتَه، وينتصِرُ الكاذبُ لصبرِه، فيشكُّ الصادق في طريقِه، وسببُ الهزيمةِ العجَلَةُ لا الحق الذي معه.
أثرُ طلبِ النصر بلا صبرٍ:
فإن المُستعجِلَ في طلبِ النصرِ بلا صبرٍ، لا بدّ أن يبتلى بإحدى ثلاثٍ:
- إمَّا أن يَستبطئَ النصرَ؛ فيَنقطِعَ ويترُكَ السيرَ وينعزِلَ، وَيرَى أن الركونَ والعُزْلةَ بما معه مِن حقٍّ خيرٌ مِن سَيْرِهِ في طريقٍ لا نهايةَ له؛ وهذا أحسَنُهم حالًا.
(1) أخرجه أبو داود (547)(1/ 150)، والنسائي (847)(2/ 106).
- وإمَّا أَنْ يُبدِّلَ طريقَهُ ويتنازَلَ عن رسالتِه، فيُغيِّرَهُ كلهُ أو بعضَهُ بحسَبِ ثباتِهِ ويقينِهِ بما معه؛ لأنَّه يظُنُّ أن عدمَ وصولِه إلى النصرِ بسبب شائبةٍ في الحقِّ الذي معه، فيتنازَلُ عن بعضهِ أو يتركُهُ كلَّه؛ وأكثرُ المُنتكِسِينَ عن الحقِّ طلَبُوا النصرَ بلا صبرٍ.
- وإمَّا أن يَستعجِلَ السيرَ بما معه مِن حقٍّ كاملٍ فيَتخِذَ أسبابًا لا تُؤخَذُ، كما لو استعجَلَ أهلُ مكَّةَ قتالَ قريش وهم بمَكةَ، ولكنَّ اللهَ عصَمَهُم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وما معه مِن الوحي، ومن استعجَلُوا السيرَ بما معهم مِن حقٍّ كاملٍ: يُعْمِيهِم كمالُ الحقِّ الذي معهم عن سبيلِ السلامةِ لوصولِه، فيَنهزِمُون وَيفتِنُون عدوهم وَيفتِنونَ أتْبَاعَهم؛ كما قال تعالى:{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85]، وقال:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 5]؛ يعني: لا تَهزمنَا بأيدِيهِم فيُفتَنُوا بهزيمتنا؛ فيظُنُّوا أنهم على الحقِّ؛ كما جاء عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ وغيرِهما (1).
وهزيمةُ أهلِ الحقِّ فتنةٌ لأهلِ الباطلِ ومن في قلبِهِ مرضٌ مِن أهلِ الحقِّ، وهذه الفتنةُ يجبُ دفعها بدفعِ أسبابِها:
ومنها: عدمُ الإقدامِ في زمنِ الضعفِ، وتركِ الإعدادِ والقتالِ في زمنِ القوةِ.
ومنها: معرفةُ أنواعِ الأعداء، وقوَّتِهم وضَعْفِهم، وقربِهم وبُعدِهم مكانًا ودينًا بالنسبةِ لقوةِ المسلِمِينَ معهم؛ فمِن السُّنَّةِ الكونية: إلَّا يُواجِهَ أهلُ الحقِّ أهلَ الباطلِ جميعًا؛ حتَّى لا يَتواطَؤوا عليهم مرةً واحدةً، فمَنِ استعدَى جميعَ أهلِ الباطلِ، اجتمَعُوا عليه؛ ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرَّقَ بينَ البَرَاءِ وبينَ الاستعداءِ؛ فالبراءُ عقيدةٌ، والاستعداءُ سياسةٌ يَقبلُ التعجيلَ
(1)"تفسير الطبري"(22/ 569).