الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمَّا العملُ، فإِنْ مُنِعَ المسلمُ مِن إظهارِه - كرَفعِ الأذان، وبِناءِ المساجدِ - وجَبَ عَلَيْهِ الهِجْرةُ إلى بلدِ يُظهرُ فيه شرائعَ دِينِه، ولو كان البلدُ الذي يُهاجِرُ ممن أهلُهُ مسلِمُونَ تَسلَّطَ عليهم مَن يمنَعُهُمْ مِن إظهارِ دِينِهم، والذي يُهاجِرُ إليه أهلُه كافرونَ، والهجرةُ لأجلِ إظهارِ الشرائعِ أَوْجَبَ مِن الهِجْرةُ لأجلِ مُفارَقةِ بلدِ الكافِرِينَ.
وأمَّا الهِجْرةُ لأجلِ البلَد، لا لأجلِ إظهارِ الشرائع، فهو أن يُهاجِرَ مِن بلدٍ كافرٍ يُظهِرُ فيه دينَهُ وشرائعَهُ إلى بلدٍ مسلمٍ يُظهِرُ فيه دينَهُ وشرائعَهُ؛ لأنَّ العِلَّةَ الأقامةُ بينَ ظَهْرَانَيْهُمْ.
وهجرةُ الحبشةِ الأُولى والثانيةُ لأجلِ العَمَلِ وإظهارِ الدِّين، لا لأجلِ البلدِ؛ فلم تكُنِ الحبشةُ بلدَ إسلام، وهجرةُ المدينةِ لأجلِ العملِ والبلَدِ معًا، والهجْرةُ لحفظِ العملِ وإقامتِهِ أعظَمُ مِنَ الهجرةِ لأجلِ الأرضِ والبَلَدِ؛ لأنَّ البَلَدَ ولو كان فاضلًا - كمَكَّةَ والمدينةِ والمسجدِ الأقصى - لا يَلزَمُ منه القدْرةُ عَلَى إظهارِ العملِ؛ فمَنْ قدَرَ عَلَى إظهارِ دينِه، أقام، ومَن لمْ يَقدِرْ، هاجَرَ ولو إلى بلدِ مفضولٍ؛ لأنَّ فضلَ الأعمالِ أعظَمُ مِن فضلِ البُلْدان، وأثَرَ الأعمالِ عَلَى أصحابِها أعظَمُ مِن أثرِ البُلْدانِ عليهم.
أحوالُ وجوبِ الهجرةِ وتحريمِها:
ويَختلِفُ الفقهاءُي وجوبِ الهجْرةِ مِن بلدِ الكفر، مع القدرةِ عَلَى إقامةِ الدِّينِ وإظهارِ الشرائعِ فيه، إلَّا أنَّ ثَمَّةَ صُوَرًا لا يَخْتَلِفونَ في وجوبِ الهجرةِ فبها ولو أُقيمَتِ الشرائعُ، وصُوَرًا لا يَختلِفونَ في جوازِ الإقامةِ في بلدِ الكفرِ فيها، أو استحبابِ ذلك، وصورًا لا يَختلِفونَ في تحريمِ الهجرةِ فيها:
أمَّا ما لا يُخْتلَفُ في وجوبِ الهجرةِ فيها مِن بلدِ الكفرِ ولو أُقيمَتِ الشرائعُ فيها: فذلك زمنَ الحربِ بينَ المُسلِمِينَ والكافِرِينَ، فلا يجوزُ
لمسلمٍ أن يُقِيمَ بينَ ظَهْرَانَيهِم، ولو مكَّنُوهُ مِن إقامةِ دينِه، لأنَّه يكثِّرُ سَوادَ الكافِرِينَ، ويُعرِّضُ نفسَهُ وأهلَهُ ومالَهُ لسِهَامِ المُسلِمِينَ وقَذائفِهم.
ولا يَختلِفونَ في وجوبِ الهجرةِ عندَ عدمِ القُدْرةِ عَلَى إقامةِ الدِّينِ وشرائعِهِ اللازمةِ والمتعدِّيَةِ؛ لازمةٍ كالذِّكْرِ والصلاةِ والصوم، ومتعدِّيةٍ كالزَّكَاةِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عنِ المنكرِ ودَعْوةِ الناسِ إلى التوحيدِ والسُّنَّةِ، وكذلك إقامةُ أحكامِ الدِّينِ وشرائعِهِ الظاهرةِ؛ كَبِنَاءِ المساجِد، وصلاةِ الجماعاتِ والأذانِ لها، والحجاب، وإعفاءِ اللِّحى، وكذلك الشرائعُ الباطنةُ التي إنْ أُقيمَتِ الظاهرةُ، لزِمَ قيامُ الباطنةِ مِن بابِ أَوْلى.
وأمَّا ما لا يُختلَفُ في جَوازِه أو مشروعيَّتِه: فهو لِمَن أقامَ في بلدِ الكفرِ لدَعْوَتِهم؛ أُسوةً بالأنبياء، ولو أطالَ البقاءَ، فإن اللهَ لم يأمُرْ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلَّا لمَّا منَعُوهُ مِن إظهارِ ديِنِه ودعوتِهِ وشرائعِ ربِّه، وهكذا الأنبياءُ مِن قَبْلَهِ لم يُغادِروا أرضَ قومِهم إلا كُرْهًا أو خَوْفًا مِن عذابِهم الموعودِ.
وأمَّا ما لا يُختلفُ في تحريمِه: فالهجرةُ مِن بلدِ الإسلامِ إلى بلدِ الكفرِ الذي لا تُظهَرُ فيه الشرائعُ بل يُحارَبُ فيه الإسلامُ، ولو كان في ذلك حِفْظٌ للدُّنيا، فلا يجوزُ لمسلمٍ أن يُهاجِرَ مِن بلدِ الإسلامِ ولو ظُلِمَ فيها في دُنْياهُ، إلى بلدِ الكفرِ التي لا يُظهِرُ فيها دينَهُ ولكنْ تُحفَظُ دُنياه؛ لأنَّه لا يجوزُ حِفظُ الدُّنيا وإضاعةُ الدِّينِ؛ فإِنَّ اللهَ لم يُوحِبِ الهجرةَ عَلَى نبيِّه والمؤمنينَ إلّا وتَبِعَهَا مِن ضياعِ دُنْياهُم وتَرْكِها - مِن مالٍ وزوجةٍ وولَدٍ ودارٍ وأرضٍ - شيءٌ كثيرٌ؛ فلا يُعتبَرُ حِفظُ الدُّنيا معَ ضياعِ الدِّينِ شيئًا.
وأمَّا مَن ظُلِمَ وقُهِرَ مِن حاكمٍ طاغٍ مُسلِمٍ تسلَّطَ عَلَى المُسلِمِينَ، وأرادَهُ عَلَى دينِهِ أو عِرْضِهِ أو نفسِه، فأرادَ الهِجْرةَ إلى بلَدِ كفرٍ يَحفَظُ دُنياهُ ويُقيمُ ديَنَهُ عندَ تعَذُّرِ بلدِ مسلِمٍ - فيجوز له ذَلكَ كما عزَمَ الزهريُّ عَلَى الهجرةِ إلى أرضِ الرومِ هربًا مِن الوليد بنِ يزيدَ؛ بشرطِ أن يكونَ