الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفىِ قوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} إشارةٌ إلى الترغيبِ في الزوجةِ الصالحةِ ذاتِ الدِّينِ؛ لأنَّ صلاحَها في أمرِ ربِّها يَتْبَعُهُ صلاحُها في حقِّ زوجِها.
وقولُه تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} :
أصلُ النشوزِ: الارتفاعُ، وسببُهُ الكِبْرُ والاحتقارُ والبغضُ، ومَن تكبَّرَ واحتقَرَ وأبغَضَ، عَصَى وخرَجَ عن الطاعة، والمرادُ: خروجُ المرأةِ عن طاعهِ زوجِها بالامتناعِ عن فِرَاشِه وسائرِ حقوقهِ عليها.
نشوزُ الزوجةِ وعلاجُهُ:
قولُه تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} :
الوعظُ: التذكيرُ بحُكْمِ اللهِ مِن كتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه، والتخويفُ مِن عقابِه، والوعظُ بالحقِّ الفِطْريِّ العقليِّ الذي فُطِرَتِ النفوسُ عليه، والتذكير بالعهدِ المأخوذِ عليها وعليه.
وجعَلَ اللهُ علاجَ النشوزِ على مرتبتَيْنِ:
الأُولى: علاجُ البيوت، فلا يَخرُجُ الناسِ؛ حِفْظًا لحقِّ البيتِ وحُرْمَتِهِ مِن ذُيُوعِ ما فيه مِن أسرارِ؛ لتُحفَظَ هيبتُهُ وكرامتُهُ؛ حتى لا يقَعَ في أفواهِ مَن يُفسِدُ على أهلِ البيت أمرَهُمْ بالقَالَاتِ والنميمةِ والغِيبة، وقد جاء في "المْسنَدِ"، و"السُّنَنِ"؛ مِن حديثِ مُعاويةَ بنِ حَيْدَةَ مرفوعًا:(وَلَا يَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا يُقبِّحْ، وَلَا يَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ)(1)، فجعَلَ مَحَلَّ ذلك في البيت لا خارجَهُ؛ ليَحفَظَ للبيتِ حُرْمَتَةُ، وللزوجةِ كرامتَها، وجعَلَ اللهُ هذه المرتبةَ على حالاتٍ:
(1) أخرجه أحمد (20011)(4/ 446)، وأبو داود (2142)(2/ 244)، والنسائي في "السنن الكبرى"(9136)(8/ 266)، وابن ماجه (1850)(1/ 593).
الحالةُ الأُولى: الوعظُ بينَه وبينَها.
الحالةُ الثانيةُ: الهجر، وخَصَّهُ اللهُ في المَضْجَعِ؛ يعني: الفِراشَ، فلا يَهْجُرُها في المبيتِ كلِّه ويدَعُ الدارَ ويترُكُها أو يُخرِجُ المرأةَ مِن بيتِه؛ وإنَّما يكونُ معها في فِراشِها ويُولِيهَا ظَهْرَهُ؛ قاله عليُّ بنُ أبي طالبٍ وابنُ عبَّاسٍ والشَّعْبيُّ والحسنُ وقتادةُ وعامَّةُ السلفِ (1)؛ وذلك ليكونَ أقرَبَ لعودةِ النفوسِ ومراجعتِها، وأبعَدَ عن وسواسِ الشيطانِ بالخَلْوةِ.
ومِن السلفِ: مَن جعَلَ الهجرَ هنا هجرَ الكلامِ والحديثِ والمُؤانَسَةِ به، لا هَجْرَ الجِمَاعِ.
ومنهم مَن قال: هو هجرُ المؤانسةِ والجِماعِ جميعًا.
وبالأولِ قال ابنُ عبَّاسٍ وعِكْرِمةُ والضحَّاكُ.
والثاني روايةٌ أُخرى عن ابنِ عبَّاسٍ.
والهجرُ لا يكونُ فوقَ ثلاثٍ؛ لعمومِ النهي؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديتِ أنسٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ)(2).
وله أنْ يَهْجُرَ ثمَّ يَصِلَ ثمَّ يهجُرَ؛ إنْ قام مُوجِبُ الهجرِ وطال، ورأَى أنَّ الهجرَ يُصلِحُها لو طال، وظاهِرُ الآيةِ: أنَّ الهجرَ هنا هجرٌ لا يُسقِطُ الحقوقَ، فيَهجُرُ كلامَهُ معها المُشعِرَ بالمُؤانَسَةِ والقُرْبِ والرضا، ويُكلِّمُها في الضروراتِ والحاجات، لا هجرًا تامًّا؛ ولذا قيَّدَ الهجرَ بالمَضاجِعِ:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} ، مع أنَّ الرجُلَ يُخالِطُ زوجتَهُ في غيرِ المَضجَعِ أكثَرَ، وفي ذلك إشعارٌ بهجرِ المؤانَسَة، وعندَ الحاجةِ لهجرِ الجِماع يهجُرُ به.
الحالةُ الثالثة: الضَّرْبُ؛ ولا يَصِيرُ إلى حالةٍ حتى يأتيَ لما يَسبقُها؛
(1) ينظر: "تفسير الطبري"(6/ 700)، و"تفسير ابن المنذر"(2/ 690)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 942).
(2)
أخرجه البخاري (6065)(8/ 19)، ومسلم (2558)(4/ 1983).
لأنَّ اللهَ رتَّبَ ذلك بقولِه: {فَعِظُوهُنَّ} ، والفاءُ للتعقيب، وبينَ كلِّ حالةٍ والتي تَلِيها ما يَكفِي لوجودِ أثرِها؛ ولذا قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ:"يَعِظُها، فإنْ فعَلَتْ؛ وإلَّا هَجَرَها"؛ أخرَجَه ابنُ المُنذِرِ (1).
وظاهرُ قولِ الشافعيِّ: الترتيبُ إلا للحاجةِ؛ فيجوزُ الجمعُ بينَ العِظَةِ والهجرِ والضربِ.
وليس المرادُ بالضربِ: المبرِّحَ الذي يُوجِعُ وَيَجرَحُ ويَكسِرُ ويُفسِدُ العُضْوَ؛ وإنَّما ما يَثْبُتُ معه التذكيرُ بالقِوامةِ؛ كالضَّرْبِ بالسِّواكِ ونحوِه؛ قاله ابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ (2).
وأمَّا المرتبةُ الثانيةُ: فهي معالجةُ نُشُوزِ المرأةِ خارجَ بيتِ زوحِها؛ وذلك بالسَّعْي بالإصلاحِ مِن الأَوْلياء، وبعثِ الحَكَمَيْنِ مِن أولياءِ الزوجَيْنِ؛ كما يأتي في الآيةِ التاليةِ.
والسُّنَّةُ: ألَّا يُصارَ إلى مرتبةٍ حتى يُؤتى بالأُولى.
قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أيْ: لو رجَعَتِ الزوجةُ عن نُشُوزِها ومَنْعِ الزوجِ حقَّه منها كفِرَاشِه، فلا يجوزُ له أنْ يستمِرَّ في وعظِهِ كالمُعَيِّرِ لها لَيَكسِرَها، أو هَجْرِهِ وضَربِهِ ليُؤذِيَها ويَضُرَّها؛ لأنَّ التائبَ كمَن لا ذنبَ له، فلا يجوزُ المؤاخذةُ بما تِيبَ منه.
* * *
الشِّقاقُ هو النِّزاعُ والخُصومةُ التي يَغلِبُ على الظنِّ عدمُ علاجِها
(1)"تفسير ابن المنذر"(2/ 690).
(2)
"تفسير الطبري"(6/ 711)، و"تفسير ابن أبي حاتم (3/ 944).