الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتأجيلَ، ولكنَّه لا يقبلُ الإلغاءَ، والبراءُ لا يقبل التأجيلَ فضلًا عن الإلغاءِ.
التفريقُ بين الخصوم، وعدَمُ جَعلِهم في مرتبةٍ واحدةٍ:
وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في عَهدَيهِ بمكةَ والمدينةِ يُفرِّقُ بينَ خصومِهِ ولو اجتمعوا في المِلَّةِ؛ ففي مكَّة فَرَّقَ بينَ كافرٍ مناصرٍ كأبي طالبٍ، وبين كافرٍ مُعَادٍ كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ وصَفْوَان وأبَيِّ بن خَلَفٍ وغيرِهم، فتبرأ مِن عقيدةِ الجميع، ولم يَستعدِ أبا طالبٍ لنُصرَتِه.
وعندَما هاجَرَ إلى المدينةِ كَثرَ أعداؤُهُ، وكَثرَ أصحابهُ، والأعداءُ يُفرِّقُ بينَهم بحسَبِ بعدِهم وقُربِهم، وشدةِ عداوتهم وخِفَّتها؛ فباعتبارِ القُربِ والبُعدِ: فالقريبُ: كاليهودِ والمُنَافِقِينَ، والبعيدُ: كالمشرِكِينَ بمكةَ، ثم النصَارَى في الشامِ وطَيِّئِ ونَجْرَانَ وغيرِها، والمَجُوسِ في فارسَ وما وراءَها.
وباعتبار شِدَّةِ العداوةِ وخِفَّتِها: فأشدهم عداوةً اليهودُ والمشركون؛ كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]، والمشركونَ أبعَدُ مِن اليهود، وأقرَبهم مودَّةً الذين قالوا: إنّا نصارى.
والنصَارَى بعيدون.
الفرقُ بين عقيدةِ البَرَاء وسياسةِ الاستعداءِ:
وسياسةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا يستعدِيَ جميع خصومِه، وإنْ تبرَّأ مِن دِينِهم كلِّه، وفرقٌ بينَ البَرَاءِ والاستعداءِ؛ وذلك أن البراءَ مِن الدِّينِ لا يُورِثُ صاحِبَهُ خوفًا مِن العزم على مقاتلَتِه؛ فالبراءُ لا يَلْزَمُ معه المُقاتَلةُ، وأمَّا الاستعداءُ: فيُورِثُ خوفًا وترقُّبًا مِن تَبْييتهِ ومُقاتَلَته، فيُعِدُّ العُدَّةَ، ويتحالَفُ مع جميعِ الخصومِ على أهلِ الحقِّ، ومَن تأمَّلَ حالَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في
المدينةِ، وجَدَ أَنَّه انشغَلَ بالعدوِّ الأقرَب، وهم اليهودُ والمنافقونَ، ولم يُكاتِبْ فارسَ والرومَ ولا ملوكَ العربِ إلَّا بعدَ صلحِ الحُدَيبيةِ حينَما أمِنَ قريشًا بالعهدِ عَشرَ سنينَ، وما كتَبَ سوداءَ في بيضاءَ إليهم؛ لأنَّ مُكَاتبَتَهُم تُشْعِرُهُمْ بالاستعداءِ، وأهلُ المدينةِ في زمنِ قلةِ عَدَدٍ، وضَعف عُدَدٍ، وعدوٍّ قريبٍ أحَقَّ بالانشغالِ به.
فانشغَلَ النَّبيُّ بالمُنافِقينَ وتَبْيِينِ صِفاتِهم، ونزَلَت عليه سورتانِ وأربعونَ آيةً لمعالجةِ شرِّهم ونفاقِهم القوليِّ والعمليِّ؛ حتَّى أصبَحُوا أشَدَّ احترازًا في إظهارِ مخالفاتِهم، ويَخافُونَ من الوحيِ أن ينزِلَ فيَفضحَهم؛ لشدةِ تتَبُّعِهِ لأقوالِهم وأفعالِهم؛ حتَّى بلغَ تتبُّعَ حركاتِهم وملامحِ وُجُوهِهم؛ كما قال تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127]، وكقولهِ:{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19]، وكقولِهِ:{فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20]، وهذه كلها تعابيرُ أورَثتهُم خوفًا وترقُّبًا وقلقًا، فلم تُحاصَرِ الأعمالُ والأقوالُ فحَسبُ؛ بل حُوصِرَتْ تعابيرُ الوجوهِ، وأحوالُ العيونِ؛ حتَّى حُوصِرَتِ السرائرُ؛ كما قال تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 64]، حتَّى بلَغ بخِيَارِ الصحابةِ - مع فَضْلِهم وسَبْقِهم - أنْ خافوا على أنفسِهِمْ مِن أوصافِ النِّفَاقِ، فأخَذ يَسألُ بعضُهُمْ بعضًا، حتَّى سألَ الفاروقُ عمرُ حُذَيفَةَ بنَ اليَمَانِ أمِينَ سِرِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم نفسِه.
وانشغَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَها باليهود، وهم العدوُّ القريبُ مع المنافقينَ، فكانتِ الآياتُ والأحكامُ في اليهودِ والمنافِقينَ في السِّتِّ السنواتِ الأولى
مِن الهجرةِ أكثَرَ مِن أحكامِ غيرِهم مِن المُشركِينَ والنصارَى، ولم يَخرُجِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ مُعتمِرًا في السنةِ السادسةِ إلَّا وقد حَصَرَ النِّفاقَ، وشتَّتَ يهودَ وأَضعفَها.
ولمَّا كان اليهودُ مِلَّةً واحِدةً يَستَقوِي بعضُهم ببعضٍ، فرقَ بينَهم؛ فعاهَدَ قومًا وسالَمَهُم، وعادَى آخَرِينَ وحارَبَهم، وكان أولَ ما بدَأ به يهودُ بَني قَينُقَاعَ، فحارَبَهم في السنة الثانيةِ مِن الهجرة، ثم بَعدَهم بنو النَّضِيرِ في السنة الرابعةِ، ثمَّ بنو قُرَيظَةَ في السُّنةِ الخامسة، ولما شَتَّتَ يهودَ وأضعَفَهم وكسَرَ شَوْكَتُهم، توجَّهَ إلى مكةَ مُعتمِرا؛ لِيُظهِرَ حقَّ المُسلِمينَ في المسجدِ الحرام، ثم مَنَعَتْهُ قريشٌ مِن الدخولِ إليها، وقد تحقَّقَ مقصودهُ مِن إظهارِ قوَّتِه، وكثرةِ أتباعِه؛ حتَّى رأتْهُ قريشٌ فهابَتهُ، فدخَلَ بعدَها بعامٍ بقوةٍ وعزةٍ وأكثرَ تمكينًا.
وكلُّ غزواتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ ذلك كانت دفعًا لِصَولَةِ قريشٍ؛ فبَدرٌ في السنةِ الثانيةِ مِن الهجرة، وأُحُدٌ في السنة الثالثة، والخَندَقُ في السنةِ الخامسةِ.
ومِن ذلك: تَبيِيتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأهلِ دومَةِ الجَنْدَلِ في السنةِ الخامسةِ لمَّا عَلِمَ بكيدِهِمْ والإغارة على قوافلِ المسلِمينَ، ومِن ثمَّ العزمُ على غزوِ المدينةِ، فعاجَلَهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قبلَ استطارةِ شرِّهم، فدفَعَهُم في مكانِهم قبلَ أن يُبَيِّتُوهُ.
ولمَّا أمِنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن عدوِّه القريب، كاتب عدوه البعيدَ؛ فبدَأ بعدَ الحُدَيبِيَةِ بإرسالِ الرُّسُلِ وترغيبِهم في الحقِّ، وترهيبِهم مِن الباطلِ، وتخويفِهم مِن أمرِ اللهِ عليهم الذي يُجْرِيهِ على يدَيهِ إنْ خالَفُوه.
وقبلَ هذه المُكاتَباتِ كلِّها كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُظهِرُ البراءَ مِن المشرِكِينَ