الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحابةِ عليها ولا مُخالِفَ للواحدِ منهم عليها - قريبٌ مِن ألفِ مسألةٍ، وكثيرٌ منها ظنِّيٌّ غيرُ محرَّرٍ، ومنه ما لا يصِحُّ سنَدُه.
ولا بدَّ مِنَ النَّظرِ في منزِلةِ الصحابي المرويِّ عنه، وسنَدِ الرِّواية، وشهرةِ المسألة، وعدَدِ مَن روى عنه القولَ، وبَلَدِهِ التي قال بها وأَفتى، وحالِ المسألةِ ونَوْعِها، وهل مِثلُها يَشتهِرُ وَيرتفِعُ، أو هي مِن المسائلِ الخاصَّةِ التي لا تَعُمُّ بها البَلوى ولا تَشْتهِرُ؟
فقولُ أبي بكرٍ وعُمَرَ لو جاء وصحَّ، يَختلِف عن قولِ غيرِهما، لأنَّ مِثلَه يُطلبُ ويَشتهِرُ، ولا ينزلُ قول غيرِهِمَا من بعضِ صِغارِ الصحابةِ مَنزِلتَه، وحكمُ الواحدِ مِنهم في العباداتِ يَختلِفُ عنِ التعزيراتِ والعقوبات؛ لأنَّ العباداتِ لا يُجتَهَدُ فيها إلَّا في الضيِّقات، بخلاف العقوباتِ؛ فقد وسَّعتِ الشريعةُ في العقوبات، وضَيَّقَت في العبادات.
وقولُ الصحابيِّ على المِنبَرِ وفي مَشهَدِ جَماعةٍ، يَختلِفُ عن قولِه وفُتياهُ لواحدٍ مِن أصحابِه، والقولُ الذي يَرويهِ عنه واحدٌ غريبٌ - ولو صحَّ - يَختلِف عن قولٍ يَتتابعُ النَّقَلةُ على روايتِهِ عنه.
الجهاتُ التي يتحقَّقُ بها إجماعُ الصحابةِ:
وبيان ذلك أنَّ مَنِ التمَسَ إجماعَ الصحابةِ في قولٍ، فلا بُدَّ مِن النَّظرِ إلى جهاتٍ متعدِّدةٍ:
الأولى: النَّظرُ إلى قائلِه؛ فكُلَّما كان الصحابي متقدِّمًا وكبيرًا أو خليفةً، كان اشتِهارُ قولِه أظهَرَ؛ كالخُلفاءِ الراشدينَ الأربعةِ وأقرانِهم؛ فإنَّ قولَهم يَشتهِرُ ويُؤخَذُ به، وهم يَختلِفونَ عَن صِغارِ الصَّحابةِ الَّذين تأخَّرَ بهِمُ العُمْرُ حتَّى ذهَبَ كبارُ الصحابة، وجلُّ مَن يَأخذُ بقولِهم مِنَ التَّابعينَ الذين لا يُعتَدُّ بخِلافِهم للصَّحابة، وغالبًا أنَّهم لا يَجسُرونَ عليه، لإجلالِهم للصَّحابةِ ولو كانوا صِغارًا، ولقِلَّةِ عِلْمِهم بالنِّسبةِ للصَّحابةِ.
وسُكوتُهم عَن قولِ الصحابيِّ لا يَعني في هذا الباب شيئًا؛ لأنَّ المرادَ هو سكوتُ الصَّحابة، وسكوتُ الصحابةِ يُرادُ مِنه الإقرارُ عليه أنَّه لَم يُخالِفْ ما جاء عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لا يَكونُ في التَّابعينَ ولو كانوا كبارًا؛ لأنَّهم لم يُدرِكوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ومِنَ الصَّحابةِ الصِّغارِ مَن تأخَّرَ به الزَّمنُ حتَّى لم يُدرِك فَتواهُ إلَّا الواحدُ والاثنانِ مِنَ الصحابةِ مِثلِه؛ لِمَوْتِ أكثرِهم.
وكلَّما تقدَّمَ الصحابيُّ زَمَنًا، كان القولُ بالإجماعِ على قولِهِ أظهَرَ عندَ عدَمِ المُخالِفِ له مِنهم، وكلَّما تأخَّرَ زمَنُه، ضَعُفَ القول لحكايةِ إجماعِ الصَّحابةِ على قولِهِ لِعَدَمِ مخالفتهم له.
الثانيةُ: النَّظَرُ إلى المسألةِ المحكومِ بها مِن الصحابيِّ؛ فإنَّ مِن المسائلِ ما أصلُه السِّعَةُ والاجتهادُ، كالتَّعزيرات، ومِنه ما الأصلُ فيه التوقيفُ على النصِّ؛ كالعبادات، فقولُ الصحابيِّ وقضاؤُهُ بتعزيرِ عاصٍ على نوعٍ ووصفٍ ومقدارٍ معيَّنٍ مِن الذَّنْبِ، وسكوتُ الصَّحابةِ عنه: لا يَعْني القطعَ بكَونِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَضى به، ولا أنَّهم سكَتُوا عنه، للإجماعِ على عدَمِ جوازِ مُخالفَتِه.
ومِنَ المسائلِ: نَوازِلُ واردةٌ بعدَ انقِراضِ زمَنِ كبارِ الصَّحابةِ أو أكثَرِ الصحابةِ؛ فقولُ الصحابي الواحدِ فيها معَ عدَمِ المخالِفِ فيها مِنهم مِمَّن كان حيًّا: لا يَلزَمُ معه حِكايةُ الإجماعِ على ذلك.
ويفرَّقُ بين مسائلَ تعُمُّ بها البلوى، ويَشتهِرُ قولُ الواحدِ مِنهم لو قَضَى به، وبينَ مسألةٍ لا تُنقَل ولا تَعُمُّ بها البلوى عادةً؛ فالغالِبُ أنَّ النَّقَلةَ للخبَرِ لا يُبلِّغونَ به غيرَهُ مِن الصَّحابةِ.
الثالثةُ: النَّظرُ إلى الحالِ التي وقَعَ فيها القولُ، وهل كان مِثلُهُ يَشتهِرُ أو لا يَشتهِرُ؛ فما يقولُهُ الصحابيُّ على مِنبرٍ وشُهودُهُ صَحابةٌ: أظهَرُ في حكايةِ الإجماعِ عليه عندَ عدَمِ المُخالِفِ منهم؛ كقولِ الصَّحابةِ في
خُطَبِ الجُمَعِ والعيدَينِ وفي خُطْبةِ عرَفةَ والتَّشْريقِ، وخاصَّةً إن كان الصحابيُّ كبيرًا.
ومِنَ المسائلِ: ما يقولُ بها الصحابيُّ في موضعٍ لا شهودَ للصَّحابةِ فيه؛ كما يَقوله أو يفعلُه أو يَقضي به الصحابي في الثُّغورِ، أو السَّفرِ، أو في بلَدٍ آفاقيٍّ لا شُهودَ للصَّحابةِ فيه إلا قليلًا، وهذا يَضعُفُ القولُ بإجماعِهم عليه، ولو كان لا مُخالِفَ له فيه؛ فمَعرفةُ بلَدِ الصحابيِّ وسُكناهُ بعدَ النبوَّةِ مُهِمٌّ في معرفةِ قوَّةِ مُوافقَتِه ومُخالَفتِه، وكُلَّما كان أقرَبَ لِمَساكنِ الصحابةِ وكَثرتِهم - كالمدينةِ - فهذا أقرَبُ للمُوافَفةِ على قولِه واشتهارِه.
الرابعةُ: النَّظَر إلى نَقَلَةِ الخبرِ عن الصحابيِّ؛ لِيُعرَفَ اشتهارُه عنه، فإنْ كان الناقلُ عنه واحدًا، وعنه واحدٌ، فهذا يَعني عدَمَ اشتهارِه حتَّى عندَ أصحاب الصحابي نفسِه؛ فكيفَ ببُلوغِهِ لغيرِه مِن الصحابةِ؟ ! فلا يُبنى على سكوتِ الصحابةِ إجماعٌ، والحالةُ هذه.
وإنِ اشْتهَرَ القَولُ عن الصحابي ونقَلَهُ عنه أصحابُهُ الذين يَشْتَرِكونَ عادةً في الأخذِ عنه وعن غيرِهِ مِن الصحابة، فهذه قرينة على اشتهارِ القول، ونَقلِهِ عنه لغيرِهِ مِن الصحابة، كما يَشترِكُ ابنُ عُمرَ وابنُ عبَّاسٍ وأبو هربرةَ وأنَسٌ في بعضِ التَّابعينَ وأخذِهم عنهم.
وهذه المسألةُ تحتاجُ إلى مزيدِ تفصيلِ ليس هذا محلَّه، واللَّه أعلَمُ.
ومَن ترَكَ حُكمَ اللهِ وتشريعَهُ، واعتَدَّ برأيِهِ وعَقلِه، وَكَلَهُ اللهُ إلى نفسِهِ فأرْدَاهُ؛ كما قال:{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} .
وفي هذه الآيةِ: إشارةٌ إلى أنَّ الضَّلالَ والشِّقاقَ يَبدَأ بصاحبِه عنادًا، ثمَّ يُحوِّلُه اللهُ في قلبِه ويُزَيِّنُهُ حتى يكونَ دِينًا وقناعةً؛ عقوبةً له.