الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولوَيَّاتُ الإصلاحِ:
ومِن الحِكمةِ: تقديمُ ما يفرِّطُ فيه الناسُ ويُضيِّعُونَهُ مِن أحكامِ اللهِ ولو كان مفضولًا، على ما يَحفَظُونَهُ وَيَعْمَلُونَ به ولو كان فاضلًا، مع عدمِ إهمالِ المحفوظِ؛ حتى لا يُنسى، وهكذا يَنزِلُ الوحيُ، وهذا مِن الحِكْمةِ التي يجبُ أنْ يَسلُكَها العالِمُ في إصلاحِه، فيَنظُرُ إلى جهتَيْنِ:
الأُولى: أنْ ينظُرَ إلى مواضِعِ بُعْدِ الناسِ عن الحقِّ وقُرْبِهم منه، فيُقرِّبَ البعيدَ حتى لا يُفرِّطَ، ويَحفَظَ القريبَ حتى يَثبُتَ فلا يَغْلُوَ.
الثانيةُ: أنْ ينظُرَ إلى منازِلِ الأحكامِ مِن الشريعةِ ومراتِبِها منها؛ حتى لا يُصلِحَ بالتشهِّي، أو بما يُحِبُّهُ الناسُ، فيَترُكَ المنهيَّاتِ التي يُحِبُّها الناسُ إلى المنهيَّاتِ التي لا يُحِبُّونَها، فيَظُنَّ أنَّه حَفِظَ الشريعةَ بانشغالِه بما هو محفوظٌ مِن غيرِه، ويَتْرُكَ المُهْمَلَ المُضَيَّعَ مِن حدودِ اللهِ تهيبًا للناسِ.
ولا شكَّ أنَّ نِكاحَ الأمِّ والأختِ والبنتِ أعظَمُ عندَ اللهِ مِن نِكاحِ زوجةِ الأبِ، ولكنَّ تحريمَ نكاحِ الأمِّ والأختِ والبنتِ معظَّمٌ في الجاهليَّةِ، ويَسْتَحِلُّونَ نِكاحَ زوجةِ الأبِ؛ فقدَّمَ تحريمَ نكاحِ زوجةِ الأبِ على غيرِه.
العقدُ على زَوْجة الأبِ:
وقولُه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ، المرادُ بالنِّكاحِ هنا العَقْدُ، فيحرُمُ العقدُ على زوجةِ الأبِ ولو لم تُوطَأُ، وهذا ظاهرُ الآيةِ؛ لأنَّ الآيةَ وما بعدَها لبيانِ المحرَّماتِ نكاحًا لا سفاحًا؛ فالآيةُ في سباقِ بيانِ العقودِ؛ فاللهُ لمَّا أطلَقَ في أوَّلِ السورةِ حِلَّ النِّكاحِ مِن النِّساء، وقيَّدَ ذلك بالعدَدِ في قولِه:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، احتاجَ إلى التقييدِ بالوصفِ مع العددِ؛ حتى لا يُفهَمَ الحِلُّ
على إطلاقِه، والآيةُ مِن أولِ السورةِ لبيانِ ما يَحِلُّ وَيحرُمُ مِن نِكاحِ النِّساءِ والعقدِ عليهنَّ، وهذا يظهَرُ في مواضِعَ مِن هذه الآياتِ:
الأولُ: قولُه تعالى في أولِ السورِة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقولُه:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ، والنكاحُ إذا أُطلِقَ في الشريعةِ فيُرادُ به العقدُ؛ كما في قولِه تعالى:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، فلا يقعُ الطلاقُ إلا بعدَ عقدٍ.
والنِّكاحُ إذا أُطلِقَ في القرآنِ؛ كقولِهِ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]؛ يعني: زوِّجُوهم، وقولِهِ:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]؛ يعني: لا تتزوَّجُوهُنَّ، فذكَرَ القيدَ (الإيمانَ)، وزِنى المُشرِكةِ والمؤمِنةِ محرَّمٌ لا فرقَ بينَهما، إلا أنَّ المؤمنةَ أشَدُّ إحصانًا وعِرْضًا وعِفَّةً، فهي أشَدُّ تحريمًا، ومنه قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]؛ يعني: تتزوَّج بل ويَدخُلُ عليها.
ومنه قولُه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، يعني: تزوَّجُوا.
الثاني: أنَّ اللهَ ذكَرَ المحرَّماتِ بعدَ ذلك؛ فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} [النساء: 23]، وهذا تحريمٌ للزَّواجِ منهنَّ والعقدِ عليهنَّ.
فالزِّنى لا تقولُ العربُ حتى في الجاهليَّةِ بحِلِّه بِهِنَّ، فالآياتُ في سباقِ تحريمِ النِّكاح، لا وطءِ الزِّنى.
الثالث: أنَّ اللهَ قال في المحرَّماتِ بعدَ ذلك: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]، وَصَفَهُنَّ بالحلائلِ؛ يعني: ما أحَلَّهُ اللهُ لهم، ولا تَحِلُّ المرأةُ إلا بعقدٍ صحيحٍ.
الرابعُ: أنَّ اللهَ ذكَرَ محرَّماتٍ وقيَّدَ التحريمَ بأوصافٍ، منها إذا تزوَّجَها الأبُ، ومنها الرَّضَاعُ، ومنها جمعُ الأُختَيْن، وهذه الأوصافُ لا تُغَيِّرُ حكْمَ الزِّنى قَبلَ وُجودِهِنَّ في المرأةِ وبَعْدَه، فالزِّنى حرامٌ، كان ذلك قبلَ الرَّضاع أو بعدَه، وبَعْدَهُ أشَدُّ، والزِّنى حرامٌ قبلَ نِكاحِ الأبِ أو بعدَه، وبعدَه أشَدُّ، والزِّنى بأُختِ الزوجةِ حرامٌ قبلَ العقدِ على الزوجةِ أو بعدَه، وبعدَه أشَدُّ.
والقولُ بأنَّ النِّكاحَ في قولِه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} هو العقدُ: هو قولُ عامَّةِ السلفِ وجمهورِ الفقهاءِ.
خلافًا لأبي حنيفةَ وقولٍ لمالكٍ، ولازمُ قولِ أبي حنيفةَ: أنَّ مَن زَنَى بامرأةٍ حَرُمَ على ابنِهِ الزواجُ منها؛ لأنَّ النِّكاحَ في اللُّغةِ الضمُّ والجمعُ، وهو شاملٌ لهذا المعنَى.
ويدُلُّ على خطأِ هذا القولِ: أنَّ مَن عَقَدَ على امرأةٍ، ولم يَدخُلْ بها، لا يَحرُمُ على ابنِه الزواجُ منها؛ وهذا مخالفٌ للإجماع، وقد روى عليُّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قال:"كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ أَوِ ابْنُكَ، دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ"؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ (1).
ويدُلُّ على أنَّ التحريمَ مُتعلِّقٌ بالعقد، لا بالدخُولِ: أنَّ اللهَ حرَّمَ على البناتِ نِكاحَ أزواجِ أمَّهاتِهنَّ، وحرَّمَ على الأبناءِ نِكاحَ زوجاتِ آبائِهم، وقال في تحريم البناتِ على أزواجِ الأمَّهاتِ:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فقيَّدَ التحريمَ بالدخولِ بأمهاتِهنَّ، وأطلَقَ التحريمَ في زوجاتِ الآباءِ بلا تقييدٍ، ولو كان مقيَّدًا بالدخول، لَقيَّدَهُ في حُرْمةِ زوجاتِ الآباءِ على الأبناء، كما قيَّدَهُ في حُرْمةِ أزواجِ الأمَّهاتِ على البناتِ.
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 910).