الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي كلامِ بعضِ الفُقَهاءِ تداخُلٌ في بعضِ صُورِ ما يَلزَمُ السكرانَ، بخلافِ ما كان بين العلماءِ القائِلينَ بلزومِ كلِّ شيءِ وبينَ القائلينَ بعدمِ لزومِ أيِّ شيءٍ.
وهذانِ القولانِ أقَلُّ الأقوالِ حظًّا مِن الأدلةِ ومقاصِدِ الشريعةِ.
وللشافعيَّةِ تفصيلٌ يُعَدُّ قولًا رابعًا. وهو أنَّهم يُفرِّقونَ بينَ السَّكْرانِ بمُباحٍ كالبَنجِ المُخَدِّرِ للعلاجِ وكحالةِ المُكرَهِ، وبينَ السَّكْرانِ بمحرَّمٍ؛ فالأوَّلُ: لا يُؤخَذُ بقولِهِ ولا يَلزَمُهُ منه شيءٌ، والثاني: يُؤخَذُ بقولِهِ وتَلزَمُهُ لوازمُه؛ مِن بيعٍ وزواجٍ وطلاقٍ وعَتَاقٍ.
وللفقهاءِ كلامٌ كثيرٌ وتفصيلٌ واستثناءٌ في مسألةِ ما يَلزَمُ السَّكرانَ وما لا يَلزَمُهُ، ومَن تتبَّعَ أقوالَ السلفِ، وجَدَ أنَّ بعضَ الاستثناءِ عندَ الفقهاءِ لا يحتاجُ إلى بحثٍ ونظرِ؛ لتَوَاتُرِ الأدلةِ على عدمِ مؤاخَذتِهِ به؛ فإنَّ السلفَ لا يَختلِفونَ في أنَّ ألفاظَ الرِّدَّةِ لا تَلزَمُ السَّكْران، وأنَّ مَن سَكِرَ مُكرَهًا أو مُخطِئًا، أو فقَدَ عَقْلَهُ ببَنْجٍ لا يُسكِرُ: أنَّه لا يُؤاخَذُ بشيءٍ مِن أقوالِه، سواءٌ بعَتَاقٍ أو طلاقٍ أو نِكاحٍ أو بيعٍ أو قَوَدٍ؛ لأنَّه في حُكْمِ المجنونِ المَطْبُوعِ على الجُنُونِ، ولا حاجةَ لاستثناءِ هذه الصُّوَرِ؛ للإجماعِ عليها عندَ السلفِ.
وقد صَحَّ عن عثمانَ بنِ عفَّانَ: عدمُ إلزامِ السَّكْرانِ بالطلاق، مِن غيرِ تفريقٍ بينَ أسبابِ سُكْرِه؛ لارتفاعِ التكليفِ عنه ولو كان مختارًا لذلك السببِ.
قربُ السَّكْرانِ للصلاةِ:
وفي المرادِ مِن قُرْبِ الصلاةِ في قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} خلافٌ عندَ المفسِّرينَ مِن السلفِ في قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} :
فمنهم: مَن جعَلَ المرادَ بالقُرْبِ: قَصْدَ الصلاةِ ودخولَها، لا دخولَ
المساجدِ بِعَيْنِها بلا صلاةٍ؛ وبهذا القولِ قال عليٌّ وابنُ عبَّاسٍ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ والحسنُ وقتادةُ ومجاهدٌ، وهذا هو القولُ الأولُ.
والقولُ الثاني: أنَّ المرادَ بالقُرْبِ: مواضِعُها؛ وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وابنِ مسعودٍ وابنِ المسيَّبِ وعطاءٍ وعمرِو بنِ دِينارٍ وعِكْرِمةَ والزُّهْريِّ.
والقولُ الأولُ لا يُنافي الثانيَ، ولا الثاني يُنافي الأولَ، لأنَّ مَن منَعَ مِن دخولِ المساجدِ لا يُجيزُ دخولَ الصلاةِ للسَّكْرانِ ولو في البَرِّيَّة، ومَن قال بأنَّ المرادَ دخولُ الصلاةِ لا يَلزَمُ مِن قولِهِ حصرُ الحُكْمِ فيه؛ وإنَّما قصَدَ أنَّ المساجدَ عُظِّمَتْ لأجلِ الصلاةِ والعِبادة، ولولاها ما كانتْ مُعظَّمةً، فذكَرُوا غايةَ الحُكْمِ وترَكُوا بدايتَهُ، وتركُهُمْ للبدايةِ لا يعني خروجَها عن الحُكْمِ، ولكنْ يعني أنَّ دخولَ الصلاةِ مِن السَّكْرانِ ولو في الفضاءِ أعظَمُ عندَ اللهِ مِن دخولِهِ المسجدَ بلا صلاةٍ، ويُؤكِّدُ هذا: أنَّ اللهَ رخَّصَ في دخولِ المسجدِ عُبُورًا، ولم يُرخِّصْ في شيءٍ مِن دخولِ الصلاةِ بأيِّ حالٍ للسَّكْرانِ والجُنُبِ إلَّا مع الوضوءِ والتيمُّمِ للجُنُبِ خاصَّةً، ومِن قرائنِ هذا: أنَّه جاء عن ابن عبَّاسٍ روايتان، وأصحابُهُ منهم مَن ذكَرَ المعنى الأولَ كسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ ومجاهدٍ، ومنهم مَن ذكَرَ المعنى الثانيَ كعطاءٍ وعِكْرِمةَ.
ومِثلُ هذا كثيرًا ما يقعُ في قولِ ابنِ عبَّاسٍ وَيعُدُّهُ بعضُ الفُقَهاءِ قولَيْنِ عنه.
وليس في حَمْلِ الآيةِ على قُرْبِ المسجدِ صرفٌ لها عن ظاهرِها، بل حملٌ لها على ظاهرِها؛ لقرائنَ؛ منها: أنَّ الله نَهَى عن القُرْبِ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} ؛ كالنهيِ عن قُرْبِ الخمرِ والمَيْسِرِ: تحريمٌ لاقتنائِها والجلوسِ في موضعٍ تُستعمَلُ هي فيه.