الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القتالُ لفكاكِ الأسيرِ:
ولا خلافَ بينَ العلماءِ في فضلِ فكاكِ الأسيرِ ووجوبِهِ للأَسرَى الكثيرِ؛ وإنَّما اختلَفُوا في القتالِ لفكاكِ الأسيرِ الواحدِ والاثنَيْنِ والعددِ القليلِ جدًّا في مُقابلِ القتالِ الكبير، على قولَينِ:
الأوَّلُ: قالوا: إنَّه ليس بفرضِ عَينٍ؛ وإنَّما على الكفايةِ وحسَبَ القدرةِ؛ وهو قولُ الحنابلةِ ووجهٌ عندَ الشافعيةِ.
الثَّاني: قالوا: إنَّه فرضُ عَيْنٍ، ولا فرقَ بين كثيرِ الأسرى وقليلِه؛ وهو قولٌ المالكيَّةِ والحنفيَّةِ ووجهٌ عندَ الشافعيةِ؛ لعمومِ الأدلَّةِ، ولم تُفرِّقْ بينَ قليلٍ وكثيرٍ.
وإنَّما عَظُمَ فَكَاكُ الأسيرِ في الإسلامِ؛ لأنَّ الأسرَ فيه استضعافٌ وهَوَانٌ للمُسلِمِينَ، وظهورٌ وعِزٌّ للكافرينَ، ولو قَلَّ الأسرى؛ فالفَكَاكُ للأسيرِ حَقٌّ لِعزِّ الأُمَّةِ أعظَمُ مِن كونه حقًّا لِفَرَجِ الأسيرِ؛ ومِن هذا الوجهِ لم يُفرِّقْ كثيرٌ مِن العلماءِ بينَ قليلِ الأسْرى وكثيرِهم؛ لأنَّ الاعتبارَ في ذلك واحدٌ؛ فقد يُستضعَفُ المُسلِمونَ ويُهانُونَ ويُظهِرُ الكفارُ عليهم العزةَ بأسيرٍ، ولكنْ إنْ لم يكنْ في المسلِمِينَ قدرةٌ، وكان القتالُ لفكاكِ الأسيرِ يضعفهم حتَّى يَزدادُوا هوانًا لقوةِ الكفارِ عليهم، فيرتفعُ التكليفُ عنهم ولكن لا يزولُ، فإنْ مَلَكُوا قدرةً، نزلَ الحُكمُ بعدَ ارتفاعِه، وتعيَّنَ عليهم بعدَ تخفيفِه.
وتركُ الأسيرِ إسلامٌ له للمشركينَ؛ ففي "الصحيحين"؛ مِن حديثِ ابنِ عمرَ؛ قال صلى الله عليه وسلم: (المسلِمُ أَخُو المُسْلِمِ؛ لَا يَظلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ)(1).
وفي "صحيحِ مسلمٍ"؛ مِن حديث أبي هُرَيرةَ؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَظلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ)(2)، ومن خِذلانِهِ تركُهُ في أسرِه.
(1) أخرجه البخاري (2442)(3/ 128)، ومسلم (2580)(4/ 1996).
(2)
أخرجه مسلم (2564)(4/ 1986).
وفَكَاكُ الأسيرِ مِن وَصَايَا النَّبيِّ لأمتِه؛ ففي "الصحيحِ"؛ أن عليًّا سُئل عما في الصَّحِيفَةِ - التي هي مِن الوحي - فقال: "العَقلُ، وَفَكَاكُ الأَسِير، وَلَا يقتلُ مُسْلِمٌ بكَافرٍ"(1).
* * *
هذه الآية إخبارٌ عما كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في أمرِ الجهادِ زمنَ مكَّةَ قبلَ الهجرةِ، وذلك أن المسلِمينَ كانوا في ضَعْفٍ، فكان من أسلَمَ شعرَ باستذلالِ المُشركِينَ للمسلِمِينَ، فاستثقَلُوا الذِّلَّةَ على الإسلامِ بعدَ العِزةِ على الكفر، فأخَذَت بعضَهُمُ الحَمِيةُ ليَنتصِرُوا لأنفسهم وللإسلام، فاستأذَنوا النَّبيَّ في القتال، وكانوا في زمن ضعفٍ وقلَّةِ عددٍ، فأنزَلَ اللَّه على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الآيةَ:{كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ؛ فقد روى النَّسائي في "سننه"، وابن جريرٍ، وغيرهما؛ مِن حديثِ عِكرِمةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ أَن عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ عَوفٍ وَأصحَابًا لَهُ أتوُا النبي صلى الله عليه وسلم بِمَكةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنا كُنّا فِي عِزٍّ وَنحنُ مُشرِكُون، فلما آمنا، صِرنا أَذِلَّةً؟ ! فَقَالَ:(إنِّي أُمِرْتُ بِالعَفْوِ؛ فَلَا تُقَاتِلُوا)(2).
وقال بعضُ السلفِ: إن الآيةَ نزَلَت في اليهودِ؛ فقد روى ابن أبي
(1) أخرجه البخاري (111)(1/ 33).
(2)
أخرجه النَّسائيّ (3086)(6/ 2)، والطبري في "تفسيره"(7/ 231)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 1005).