الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} [النساء: 112].
جاءَت هذه الآيةُ تبَعًا لسابقِ الآياتِ فيمَن سرَقَ مَتاعًا، ثُمَّ تَبرَّأَ منه، وألقَى تُهَمَتهُ على غيرِه؛ نَصَّ عليهِ ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ بنُ النُّعْمَانِ وابنُ سِيرِينَ وغيرُهم، وحكى ابنُ جَريرِ الإجماعَ على أنَّ مَن اتَّهَمَ البريءَ هو ابنُ أُبَيرِقٍ (1)، ولكنَّ العُلماءَ فيما يخصُّ البريءَ ودِينَهُ على خِلافٍ، والأشهَرُ أنَّه يهوديٌّ على ما تقدَّمَ.
إقرارُ الإنسانِ على نفسِهِ دفعًا للضررِ عن غيرِهِ:
وفي هذه الآيةِ: وجوبُ أن يُقِرَّ الإنسانُ على نفسِهِ إن عَلِمَ أنَّ التُّهمَةَ وقعَت أو ستقَعُ على غيرِه، فيُؤخَذُ بجَرِيرَتِهِ بريءٌ، وهذا في كلِّ حقٍّ! سواءٌ أكان للهِ أم لغيرِ اللهِ.
وأمَّا إقرارُ الإنسانِ على نفسِهِ فيما لا يُؤخَذُ به غيرُهُ، ولا حقَّ لآدميٍّ فيه، ولو كان فيه حقٌّ لآدميٍّ وهو قادرٌ على إعادتِهِ بلا إقرارِه لذنبِهِ؛ سترًا لنفسِه، وهو عازمٌ على التوبة، ونادمٌ على جُرْمِه -: فالصَّحيحُ: أنَّه يستُرُ نفسَهُ، ويتوبُ بينهُ وبينَ ربِّه.
وأقوى الإقرارِ: إقرارُ الرجُلِ على نفسِه، وظاهرُ الإطلاقِ في الآيةِ: أنَّ الإقرارَ يكفي مِن الرَّجُلِ على نفسِهِ مرَّة واحدةً في قولِ جمهورِ العلماءِ؛ وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ ومالكٍ في قولٍ له، وعندَ قيامِ الشُّبهةِ في قولِهِ أو ظنِّ إكراهِهِ وخوفِه عندَ عدمِ إقراره، فيُعادُ عليه حتَّى يَستَبِينَ منه، ولا حَدَّ لأعلى الاستبانة، لكن حتَّى يَغلِبَ على الظنِّ ظهورُ الإقرارِ باختيارٍ؛ فقد تكفي مرَّةٌ، وقد لا تكفي ثلاثٌ، ولا يثبُتُ تقييدُ
(1)"تفسير الطبري"(7/ 478).
عددِ الإقرارِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد روى أحمدُ وأصحابُ "السننِ"؛ مِن حديثِ أبي أَميَّة المَخزومِيِّ؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلِصٍّ قدِ اعترَفَ ولم يُوجَدْ معه متاعٌ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ)(1)، وفي سندِه مجهولٌ، وهو أبو المنذِرِ مَوْلَى أبي ذَرٍّ، يَرْوِيهِ عن أبي أميَّةَ، به، وفي مَتْنِه اضطرابٌ، فتارة يَقولُ:(مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ) مرَّتَيْن، وتارةً يَقولُ:"مرَّتَينِ أو ثلاثًا"، وقد جاء مِن حديثِ أبي هريرةَ بنحوِه (2)، والصوابُ: إرسالُهُ مِن حديثِ محمدِ بْنِ عبدِ الرَّحمنِ بن ثَوْبانَ مُرْسَلًا.
أخرَجَه أبو داودَ (3)، وصوَّبَ المرْسَلَ ابنُ المَديني وابن خُزَيْمةَ وغيرُهما.
ولو صحَّ الحديث، لكان في الاستبانةِ عندَ قَيامِ شُبْهةِ عدَمِ السَّرِقةِ! لعدَمِ وجودِ المتاعِ معه.
ولو كان الإقرارُ لا يصحُّ إلَّا بعددٍ يتوقَّفُ في ثبوتِهِ عليه، لصَحَّ النقلُ له بأقوى إسنادٍ؛ كما في عددِ شهادةِ المتلاعِنَينِ على نفسَيهِما، وعددِ الطلاقِ والحيضِ وغيرِ ذلك؛ فإنَّ في ذلك حِفْظًا للدِّماءِ والأعراضِ والأموال، أو تضييعًا لها، ولكنْ لمَّا كان المقصودُ الإقرارَ بعَينِه، وجَبَ على القاضي تحقيقُهُ مِن أيِّ شُبْهةٍ تُضعِفُه، ودفع الشُّبُهاتِ لا يتحقَّقُ بعددٍ معيَّنٍ، واللهُ أمَرَ بالعدلِ مع النفسِ؛ وذلك بالإقرارِ عليها بما يتحقَّقُ به العدلُ بلا عددٍ؛ كما في قولِهِ تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135].
(1) أخرجه أحمد (22508)(5/ 293)، وأبو داود (4380)(4/ 134)، والنسائي (4877)(8/ 67)، وابن ماجه (2597)(2/ 866).
(2)
أخرجه البزار في "مسنده"(8259)(15/ 46)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 168)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 381)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 275).
(3)
أخرجه أبو داود في المراسيل" (244)(ص 204).
وكلَّما قَوِيَتِ القرينةُ على عدَمِ صحةِ الإقرار، زِيدَ في تكرارِ الإقرارِ واستيضاحِهِ؛ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه ومسلم - لِمَن أقرَّ على نفسِهِ:(أَبِكَ جُنُون؛ )(1)، هو أرادَ نَفيَ شُبْهةِ الجنونِ وغيابِ العقلِ؛ ولذا أعادَ النبى - صلى الله عليه ومسلم - طَلَبَ الإقرارِ بأعدادٍ متبايِنةٍ؛ فتارةً مرَّةً، وتارةً مرَّتَين، وتارةً أربعًا؛ ممّا يدلُّ على عدمِ قصدِ العددِ بعينِه، وإنَّما جِلاءُ الإقرارِ وتحقُّقُه وصِحَّتُه.
والإمامُ أحمد وإسحاقُ يَرَيَانِ الإقرارَ أربعًا لإقامةِ الحدِّ؛ لظاهرِ رَجمِ ماعزٍ في "الصحيحَينِ"؛ حيثُ شهِدَ على نفسِهِ أربعَ شهاداتٍ، وحديثِ جابرٍ في قصَّةِ رجمِ ماعزٍ؛ فإنَّما هو شهِدَ على نفسِه مِن تِلقائِها، ولم يَطلُبْ مِنه أربعًا، ثُمَّ بعدَ الرَّابعةِ قال له النَّبيُّ - صلى الله عليه ومسلم -:(أَبِكَ جنونْ؟ )، فكانَتْ خمسًا، وظاهرُهُ عدمُ قصدِ الأربع؛ وإنَّما دفعُ الشبهة، والتشوُّفُ للسَّتر.
ويكون الإقرارُ عندَ مَنْ له ولايةُ الحَدِّ، وهو الحاكمُ القاضي الذي يَفصِل ويأمُرُ بتنفيذِ ما فصَلَ به، لا عند غيرِه؛ عند جمهورِ العلماءِ.
* * *
قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114].
في الآيةِ: كَراهةُ النَّجْوَى بغيرِ المعروف، والأمرِ بالصَّدَقة، والإصلاحِ بين الناس، والنَّجْوَى: هو الحديثُ الذي يُهمَسُ به بين اثْنَيْنِ أو ثلاثةٍ، ولا يُعلَن فيُسمَعَ؛ وإنَّما يُسَرُّ به ويُخفَى؛ ومِن ذلك قولُه تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7].
والأصلُ في الشريعةِ: التشوُّفُ إلى الإعلان، وكراهة الإسرارِ؛ لأنَّ
(1) أخرجه البخاري (6815)(8/ 165)، ومسلم (1691)(3/ 1318).