الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دونَ استحلالٍ فِسْقٌ وفُحْشٌ؛ فلا يلزَمُ مِن فعلِ المُحرَّمِ تشريعُ حِلِّه، ولا مِن تركِ الحلالِ تشريعُ تحريمِه.
حكمُ العقدِ على مَحْرَمٍ:
وإنَّما الخلافُ طرَأَ عندَ الفقهاءِ؛ لاختلافِهم في أمرِ العقودِ: هل هي استحلالٌ صريحٌ للمُحرَّمِ أو لا؟
والحقُّ: أنَّ مُشرِّعَ العقودِ وسَانَّها حُكْمُهُ أشَدُّ مِن حُكْمِ المُتعاقِدين، فمَن شرَّعَ العقودَ للوقوعِ في المُحرَّمِ؛ كمَن يُشرِّعُ الحرامَ بسَنِّ عقودٍ للزُّناةِ إذا أرادُوا الزِّنى، ومَن يسُنُّ ويُشرِّعُ عقودًا لمتبايِعِي الخمرِ إذا تبايَعُوا، فهذا مُشرِّعٌ مِن دونِ اللهِ حاكمًا أو نظامًا، وهذا كفرٌ باللهِ.
وأمَّا المتعاقِدانِ على محرَّمٍ قطعيٍّ مِن نِكاحٍ أو بيعٍ أو طعامٍ ونحوِ ذلك مع العِلْمِ بتحريمِهِ؛ كمَن عقَدَ على امرأةٍ لا تَحِلُّ له:
فقد ذهَبَ جماعةٌ مِن الفقهاءِ: إلى أنَّ ذلك ليس بتشريعٍ قطعيٍّ حتى تقومَ قرينةٌ أو بيِّنةٌ عليه، وإنَّما هو فِعلٌ للمحرَّمِ؛ وبهذا قال جماعةٌ مِن الفقهاءِ؛ كأبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأبي يوسُفَ ومحمدِ بنِ الحسنِ وجماعةٍ مِن فقهاءِ المالكيَّة، وهو قولُ ابنِ عبدِ الحكمِ وأبِيهِ وابنِ القاسِمِ وأَشْهَبَ وغيرِهم، وهؤلاء وإنِ اختلَفُوا في العقوبةِ وصِفةِ إنزالِها، فإنَّهم يتَّفقونَ على أنَّ المتعاقدينِ لم يَكْفُرَا.
وظاهرُ مذهبِ أحمدَ وقولِهِ: أنَّ مَن عقَدَ على امرأةٍ محرَّمةٍ عليه تحريمًا قطعيًّا: أنَّه يُحَدُّ رِدَّةً؛ لأنَّ التعاقُدَ عليه استحلالٌ عندَهُ؛ وبهذا قال إسحاقُ والطحاويُّ وابنُ تيميَّةَ وابن كثيرٍ.
واستدَلَّ أحمدُ: بما رواهُ هو مِن حديثِ عديِّ بنِ ثابتٍ، وأبي الجَهْمِ؛ كلاهما عن البراءِ بنِ عازبٍ؛ قال: "مَرَّ بي عَمِّي الحَارِثُ بْنُ عَمرٍو وَمَعَهُ لِوَاءٌ قَدْ عَقَدَهُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ،
أَيْنَ بَعَثَكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: بَعَثَني إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيه، فَأَمَرَني أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ" (1).
ورواهُ أهل السُّننِ من طرقٍ وألفاظٍ مُتقاربةٍ (2).
وخلافُ العلماء في التعاقد على المحرّم هل يكون دليلًا صريحًا على الاستحلال أو لا؟ وأمَّا الاستحلال للمحرَّم القطعيِّ، فلا خلاف في كونه كفرًا.
والصحيحُ كما سبق: أنَّ من سنَّ العقود للناس وشرعها ليفعلوا، فهو مستحِلٌّ للفعْل، وهذا في الحُكَّام والنظم والقوانين والحكومات، والقرينة فيه مشرِّعًا أصرحُ من المتعاقدين، فالمشرِّعُ للعقود وسنِّ الأنظمةِ التي يصلُ بها المتعاقدون للمُحرَّم - البيِّنَة عليه في استحلاله للمُحرَّم أظهر وأقوى - فيأخذ حكم المستحلِّ بالكفر؛ لأن المتعاقدين تختلف مقاصدهم بين مستحِلٍّ وغير مستحِلٍّ، فهو قد شرَّع للجميع مع اليقين بوجود من يتعاقدُ منهم استحلالًا.
والمتعاقدان قد يتعاقدان على مُحرَّمٍ شهوةً؛ من مالٍ كالرِّبا، أو مطعمٍ كالخمرِ، فلا يحصُلُ لهما إلا بعقدٍ؛ كمن يتعاقد مع بائعٍ على بيع ربًا، أو غَرَرٍ، أو شراء خمرٍ، وهو يعلم؛ لأنَّه لا يجدُ ما يُمضي به الصفقة إلا بعقدها، فهذا لا يكفُر، وهو آثمٌ، ومثله من عقد على ذاتِ محْرمٍ يُريد الزِّنى بها، فلم يصل إلى مواقعتها وقضاء شهوته منها إلا بالعقد عليها؛ فهذا يقام عليه حدُّ الزِّنى، ولا يكفُر، وإذا قامت البيِّنةُ على من عقد على ذاتِ مَحْرَمٍ: أنَّه فعله لا لقضاءِ شهوة المواقعة، بل للبقاء والولادة منها، ولو أرادها زنًى من غير عقدٍ، وجدَها، فهذا مستحِلٌّ، وعليه يُحملُ حديث
(1) أخرجه أحمد (18579)(4/ 292).
(2)
أخرجه الترمذي (1362)(3/ 635)، والنسائي (3331)(6/ 109)، وابن ماجه (2607)(2/ 869).
البراءِ وقول أحمد فيه؛ لأنَّ الفاعل عالمٌ بالتحريم، وظهر منه استحلاله، وأنَّه يُريد النِّكاح لا الزنى، وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أنَّ الابن أولى بامرأة أبيه من غيره، فظهر: أنَّ مقصود ناكح امرأة أبيه العقد عليها والزواج منها، لا الزِّنى بها؛ وهذا استحلالٌ؛ كما سبق.
والشافعيُّ إنما جعل مَن عَقَدَ على امرأة أبيه زانيًا، فيقام عليه حدُّ الزِّنى، لا الردَّة؛ لعدم قيام البيِّنة على استحلاله.
والاستحلال لا خلاف فيه عند الجميع، ولكن الخلاف في تحقُّق صورته في الأفعال؛ ولذا فأبو حنيفة يرى أنَّ العقد يُقيم الشبهة على جهل المتعاقدين؛ لأنهما لو أرادا الفاحشة، لما تعاقدا، ولكنَّهما أرادَا النِّكاح المشروع، فأخطأ موضعهُ.
وعلى هذا: فلا خلاف بين قول أحمد وبين غيره من الأئمَّة فيما قامت البيِّنَة على استحلاله من المُحرَّمات بعقدٍ أو بغير عقدٍ: أنَّ فاعله كافرٌ بالله، فإنّ أحمد يُفرِّق بين الجاهل والعالِمِ إذا نكَحَ ذات المحْرم؛ كما في رواية ابنه عبد الله:
قال عبد الله: "سألتُ أبي عن حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ رجلًا تزوَّج امرأة أبيه، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتله وأخذ ماله؟
قال أبي: نرى - والله أعلم - أن ذلك منه على الاستحلال، فأمر بقتله بمنزله وأخذ ماله" (1).
ويُؤيِّد هذا: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتل امرأة الأب التي تزوَّجَها ابن زوجها، ولم يأمُرُ بقتل الوليِّ إن وُجدَ؛ لأنَّ القرينة في قصد الابن بالزواج من امرأة أبيه أنه استحَلَّ: أظهر منه في غيره؛ فدَلَّ على أنَّ الحُكم على المتعاقدين على حرامٍ يختلف باختلاف حالهما في القصد وفي الجهل والعلم.
(1)"مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله"(ص 351 - 352).
وعلى هذا: يُفرَّق بين المُحرَّم البيِّن فيما يُتعاقد عليه وبين المشتبه بحسب حال المتعاقدين وبُلدانهم ووفرة العلم فيها؛ فنكاحُ الأمِّ يختلفُ عن نكاح زوجة الأب، والبنتُ تختلفُ عن الأخت، وكلَّما كانت المرأة أشدَّ تحريمًا بالطبع والشرعِ، فالقرينة على الاستحلال أقوى.
وإنما كان التفريقُ بين مشرِّع العقود وسانِّها للناس وبين المتعاقدين؛ أنَّ فِعل مشرِّع العقود المُحرَّمة وسانِّها يقع على العقد، لا على فعل الحرام؛ كالرِّبا والخمر والزِّنى والانتفاع به؛ فليس هو من المتعاقدين، ولا شهوة له بالمال ولا الطعام ولا الفرج الحرام المعقود عليه، وأمَّا المتعاقدان: فَفِعلهما يقع على الحصول على المحرَّم، وشبهة الاستحلال بالعقد قائمةٌ؛ لأنهما فعلا العقد لأكل مال الرِّبا وشرب الخمر وفعل الزِّني، فلم يجداهُ إلا بعقدٍ عليه، ولو وجداهُ من غير عقدٍ، لما اشترطا العقد، ولا بحثا عنه، والحاكم يسُنُّ العقود ويشرِّعُها للناس للحصول على المُحرَّم، ففعله تشريعٌ فقط، وأعظم من ذلك من يُلزم بالعقود المُحرَّمة القطعيَّة ويعاقب على تركها.
* * *
حرَّم الله تعالى في هذه الآية سبعًا بالنَّسَبِ، وسبعًا بالمصاهرةِ،