الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونُسِبَ إليه إدخالُ الهديَّةِ في معنى التحيَّةِ وحُكْمِها، ولعلَّ العِلَّةَ في ذلك: ما في الهديَّةِ مِن معنى المحبَّة، وبها يتحقَّقُ الأمانُ والإيناسُ، وهذا المعنى موجودٌ في التحيَّةِ القوليَّةِ.
وقد ذهَبَ ابنُ عُيَيْنَةَ: إلى أوسَعَ ممَّا ذهَبَ إليه مالكٌ؛ فجعَلَ التحيَّةَ كلَّ معروفٍ يُبذَلُ ورَدَّهُ بالشكرِ عليه قولًا وعملًا.
والظاهرُ: أنَّ الهديَّةَ وتشميتَ العاطسِ يَدْخُلانِ في العلةِ، وهي الأمانُ والإيناسُ، لا في حُكْمِ التحيَّةِ وفضلِها؛ فإنَّ التحيَّةَ إذا أُطلِقتْ يُرادُ بها السلامُ وما في حُكْمِهِ مِن الألفاظِ والإشارةِ؛ وذلك لقولِهِ تعالى في سورةِ النورِ:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [61].
التحيَّةُ بغيرِ السلامِ:
ومَن بذَلَ التحيَّةَ بغيرِ السلام، جاز وقد ترَكَ الأفضلَ؛ فأفضَلُ التحيَّةِ السلامُ، وتصحُّ تحيَّةُ الأعجميِّ المُسلِمِ بلُغَتِهِ التي يَفهَمُها إذا لم يَعرِفْ معنى السلامِ.
وهذه الآيةُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ظاهرةٌ في حكايةِ البَدَاءَةِ بالتحيَّةِ وآمِرَةٌ بالردِّ عليها، وهي مُشعِرةٌ بأنَّ الردَّ آكَدُ مِن البَدَاءَة، ولا خلافَ أنَّ ردَّ السلامِ آكَدُ مِن بَذْلِه.
حُكْم ردِّ التَّحيَّةِ:
وردُّ السلامِ واجبٌ بلا خلافٍ، إلَّا مَن هُجِرَ بموجِبٍ شرعيٍّ؛ فيجوزُ عدمُ ردِّ السلامِ عليه إذا سَلَّمَ، ووجوبُ ردِّ السلامِ ظاهرٌ في الآيةِ مِن قولِه تعالى:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .
حكمُ بذلِ التحيَّةِ:
واختُلِفَ في بَذْلِ التحيَّةِ - ومنها السلامُ - ابتداءً، على قولَيْنِ:
- قيل بالوجوبِ.
- وقيل بالسُّنِّيَّةِ؛ وحكى ابن عبدِ البَرِّ الإجماعَ عليه.
والأظهَرُ: التفصيلُ والتفريقُ بينَ:
- المَجَالِسِ التي اعتاد الإنسانُ دخولَها وغِشْيانَها ورؤيةَ أهلِها كلَّ يومٍ.
- وبينَ المَجَالِسِ التي لا يَغْشَاها إلَّا لِمَامًا أو نادرًا، أو لم يَدخُلْها إلا مرةً؛ ففي الأخيرةِ يجبُ، وكلَّما اعتاد الإنسانُ دخولَ مكانٍ، خَفَّ الأمرُ عليه؛ لأنَّ عِلةَ السلامِ الأمانُ والإيناسُ وبذلُ المودَّة، ولا تُوجَدُ في المجالسِ والدُّورِ التي لا يَغْشاها الإنسانُ إلا نادرًا أو لم يَدخلْها مِن قبلُ، حتى قال بعضُ السلفِ بوجوبِ التحيَّةِ حتى في دُخولِ الرجُلِ بيتَهُ؛ لقولِهِ تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]، سواءٌ كان الدخولُ في بيوتِ الأهلِ أو بيوتِ الأرحامِ أو الأَبعَدِينَ أو الأسواقِ.
وذهَبَ إلى الوجوبِ بعضُ السلف، وقد روى أبو الزُّبَيْرِ؛ قال: سمعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يقولُ: إذا دخَلْتَ على أهلِكَ، فسَلِّمْ عليهم:{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور 61]؛ قال: ما رأيتُه إلا يُوجِبُه؛ أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ وغيرُه (1).
ونَفَى عطاءٌ القولَ بالوجوبِ عن أحدٍ ممَّن سبَق؛ فقد روى ابنُ جُرَيْجٍ؛ قال: قلتُ لعطاءٍ: إذا خرَجْتُ، أواجبٌ السلامُ، هل أُسَلِّمُ عليهم؟ فإنَّما قال:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا} [النور: 61]؟ قال: ما أعلَمُهُ واجبًا، ولا آثِرُ عن أحدٍ وجوبَةُ، ولكنْ أَحَبُّ إليَّ وما أَدَعُهُ إلَّا ناسيًا (2).
(1)"تفسير الطبري"(17/ 378)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2650).
(2)
"تفسير الطبري"(17/ 379).
ولعلَّ عطاءَ بنَ أبي رَبَاحٍ نَفَى العِلْمَ بوجوبِ بَذْلِ السلامِ عندَ دخولِ الببوتِ التي سبَقَ إليها الإيناسُ باعتيادِ الإنسانِ دخولَها والخروجَ منها، للصلواتِ الخمس، وللسُّوق، ولإجابةِ طارقِ البابِ، وقضاءِ حاجةِ المحتاجِ، وبذلِ السلامِ عندَ الدخولِ للبيتِ ولو لم يكن فيه أحدٌ: أنَّه لا يُوجِبُهُ أحدٌ.
ويُؤيِّدُ هذا: روايةُ ابنِ جُرَيْجٍ الأُخرى؛ قال: قلتُ لعطاءٍ: فإنْ لم يكنْ في البيتِ أحدٌ؟ قال: سلِّمْ، قلِ: السلامُ على النبيِّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، السلامُ علينا وعلى عِبادِ اللهِ الصالحِين، السلامُ على أهلِ البيتِ ورحمةُ الله، قلتُ له: قولُكَ هذا إذا دخَلْتَ بيتًا ليس فيه أحدٌ، عمَّن تَأْثِرُه؟ قال: سمعتُهُ ولم يُؤثَر لي عن أحدٍ (1).
فابنُ جُرَيْجٍ وعطاءٌ يَعْنِيَانِ بعدمِ وجوبِ السلامِ: السلامَ الخاصَّ بالبيوتِ التي اعتاد الإنسانُ دخولَها لسبقِ الإيناسِ بينَة وبينَ أهلِها، ومِثلُ هذه الحالِ: الصحيحُ أنَّ السلامَ لا يجبُ بذلُهُ، وثَمَّةَ فرقٌ بينَ الدُّورِ والمجالسِ التي اعتاد الإنسانُ غِشْيانَها بكثرةٍ؛ كَبْيتِهِ ومسجدِه، فالأمرُ ببذلِ السلامِ فيها أخَفُّ وأيسَرُ مِن المجالسِ التي لا يدخُلُها الإنسانُ إلَّا لمامًا أو لم يدخُلْها مِن قبلُ؛ فالتحيَّةُ لابدَّ منها بأيِّ لفظٍ وصيغةٍ؛ وذلك لأنَّ التحيَّةَ إنَّما شُرِعَتْ لأجلِ الإيناس، وهو يُوجَدُ في بيتِ الرجلِ ولا يُوجدُ في الأبعَدِينَ، وحُكْمُ بذلِ التحيَّةِ مقترِنٌ مع وجودِ الإيناسِ وعدمِه.
وحَمَلَ بعضُهم الردَّ بأحسَنَ منها في قولِهِ تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} على المؤمنينَ خاصَّةً؛ رواهُ سعيدٌ عن قتادةَ، وقال به عطاءٌ والحسنُ (2).
(1)"تفسير الطبري"(17/ 379).
(2)
"تفسير الطبري"(7/ 275)، و"تفسير ابن المنذر"(2/ 817)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1021).