الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنَّ إعادةَ الحقوقِ فرضٌ على القادِرِ مِن الأُمَّة، ويقومُ بها مَن يَكفي إنْ وُجِدَ عن بقيَّتِهم، وإلَّا أَثِمَ القادرونَ جميعًا، وأخذُ الهديَّةِ على الشفاعةِ في أخذِ الحقِّ ورفعِ الظُّلْمِ: رِشْوةٌ.
وربَّما أطلَقَ بعضُ الفقهاءِ الجوازَ مُخالِفًا إجماعَ السلفِ في هذا النوعِ، فلو جاز أخذُ العطاء على هذا النوعِ مِن الشفاعة، بُذِلَتِ الشفاعةُ لِمَنْ لا يستحِقُّها، واشتراها أَقْدَرُهُمْ على دفعِ المال، وتَعَطَّلَتْ عن أهلِها ومستَحِقِّيها، بل مُقتضَى ذلك: جوازُ الشفاعةِ في أخذِ الزكاةِ لمستحِقِّيها، وكذلك الفيءُ وإقطاعُ الأرض، وبهذا يفسُدُ أهلُ الجاهِ وتَضِيعُ الحقوقُ عندَ الأمراءِ.
دفعُ الضَّرَرِ بالمالِ:
ومَن عجَزَ عن رَفْعِ الظُّلْمِ عن نفسِهِ أو أخذِ حقِّه، ولم يَجِدْ شافعًا إلَّا بالمال، جاز منه، وحَرُمَ على الشافعِ؛ ففي "المسنَدِ"، عن عمرَ رضي الله عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم:(أَمَا وَالله، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُخْرِجُ مَسْأَلتَهُ مِنْ عِنْدِي يَتَأَبَّطُهَا)؛ يَعْنِي: تَكُونُ تَحْتَ إِبْطِهِ؛ يَعْنِي: نَارًا، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، لِمَ تُعْطِيهَا إِيَّاهُمْ؟ قَالَ:(فَمَا أَصْنَعُ؟ يَأْبَوْنَ إِلَّا ذَاكَ، وَيَأْبى اللهُ لِي الْبُخْلَ! )(1).
الفرقُ بين الجعالةِ والشفاعةِ:
والفرقُ بينَ الشفاعةِ والجِعَالَةِ: أنَّ الشفاعةَ تُبذَلُ بالجاهِ لا بمجرَّدِ العملِ، والجِعَالةَ بالعملِ ولو مِن كلِّ أحدٍ، ولو تَبعَ ذلك شيءٌ مِن الجاهِ غيرِ المقصودِ بِذَاتِه، فالجِعَالةُ: عملٌ يقومُ به كلُّ أحدٍ ويمتازُ به أهلُ الخِبْرةِ ويشترِكونَ فيه، وأمَّا الشفاعةُ: فيختصُّ بها أهلُ الجاه، ولا يقومُ بها كلُّ أحدٍ بعملِهِ ولو كان خبيرًا، وأمَّا الخبيرُ الذي اكتسَبَ الخِبْرةَ بعَمَلِه؛ كالخِرِّيتِ الذي يَعرِفُ الطريقَ ومسالِكَ السلامةِ وطُرُقَ الهلاكِ
(1) أخرجه أحمد (11004)(3/ 4).
وجِهاتِ الأرض، فهذا يُستأجَرُ بالمالِ؛ لأنَّه استُؤجِرَ لخِبْرتِهِ لا لجاهِه، فالجاهُ لا يَلزَمُ معه عملٌ أو خِبْرةٌ.
وإنْ تَبعَ الجِعَالةَ جاهٌ على سبيلِ التَّبَعِ لا الاستقلال، لم يَضُرَّ، وجاز أخذُ العِوَضِ.
والجاهُ نِعْمةٌ مِن اللهِ ومِنَّةٌ، فالأخذُ به دنيا يُفسِدُ رؤوسَ الأُمَّةِ ووُجَهَاءَها، ويَحبِسُونَ الحقوقَ بانتظارِ المالِ، ويُعَطِّلُهُمْ عنِ التكسُّبِ مع عمومِ الناس، فيَكِلُهُمْ إلى التكسُّبِ بالجاهِ لا بعملِ اليدِ.
وهذا لا يُعارِضُ ما جاء في حديثِ ابنِ عمرَ في "المسنَدِ"، و"السُّننِ":(مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا، فَكَافِئُوهُ)(1).
فإنَّ هذا في باذِلِ الخيرِ والإحسانِ مِن غيرِ إعادةِ حقٍّ أو رفعِ ظُلْمٍ؛ كمَن أعانَ على حَمْلِ المتاع، أو إيجادِ ضالَّةٍ، أو الإمساكِ بدابَّةٍ نادَّةٍ، ونحوِ هذا.
وقولُه تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} : المُقِيتُ في الآيةِ: الحَفِيظُ؛ قاله ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه (2).
واللهُ أعلَمُ.
* * *
* قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86].
قولُه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} : التحيَّةُ مشتقَّةٌ مِن الحياة، وفي هذا مِن
(1) أخرجه أحمد (5365)(2/ 68)، وأبو داود (1672)(2/ 128)، والنسائي (2567)(5/ 82).
(2)
"تفسير الطبري"(7/ 271)، و"تفسير ابن المنذر"(2/ 813)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1019).