الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتُحايدُ في القتال، وفيه: أنَّ مِن الحِكْمةِ والسياسةِ عدمَ اسْتِعْدَاءِ أُمَمِ الكُفْرِ، الذين لو اجتمَعُوا، لَمَا كان للمُسلِمِينَ قدرةٌ عليهم، فاللهُ جعَلَ كَفَّهُ لبعضِهم مِنَّةً وفضلًا منه؛ حتى يتفرَّغَ المُسلِمونَ لآخَرِينَ فيَأخُذُوا كلَّ فئةٍ وأمَّةٍ كفريَّةٍ وحدَها، ولا تنتصِرُ لها أختُها.
المسلمُ بين المحارِبِينَ:
ومَن كان مع الكافِرِينَ المُحارِبِينَ، وأُمِرَ بالخروجِ منهم فلم يَخرُجْ وهو قادرٌ، أخَذَ حُكْمَهم، وقد كاد أقوامٌ مِن أهلِ مكةَ يَأْتُونَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُسلِمُونَ ليَأْمَنُوهُ وَيأْبَوْنَ الهجرةَ فيَرجِعُونَ إلى مكةَ، وهم المقصودونَ بعدَ ذلك بقولِه:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} ، وقد صحَّ عن مُجاهدٍ؛ قال:"هم ناسٌ مِن أهلِ مكةَ يَأْتُونَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فيُسلِمونَ رِياءً، ثمَّ يَرجِعُونَ إلى قريشٍ، فيَرْتَكِسُونَ فِي الأوثانِ؛ يَبتَغونَ بذَلِكَ أنْ يأمَنُوا هاهنا وهاهنا، فأَمَرَ بقتالِهم"(1).
وقد تقدَّمَ في سورةِ البقرةِ الكلامُ على مُسالَمةِ المُشرِكينَ ومُصالحتِهِمْ عندَ قولِهِ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} ، وبيَّنَّا أنَّ المرادَ بالسِّلْمِ: الإسلامُ، وحمَلَهُ بعضُ المتأخِّرينَ على المُسالَمةِ والمصالَحة، وبيَّنَّا هذا القولَ وفصَّلْنا في حُكمِ المُهادَنةِ والمُوادَعةِ تَبَعًا.
* * *
(1)"تفسير الطبري"(7/ 301)، و"تفسير ابن المنذر"(2/ 827)، و "تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1029).
في الآيةِ: تعظيمُ الدَّمِ الحَرَامِ، وقد بَيَّنَ الله خَطَرَهُ بأنَّه لا يقَعُ مِن مؤمنٍ باللهِ حقَّ الإيمانِ:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} ؛ أيْ: لا يكونُ له، ولا يَنبغِي وقوعُهُ منه؛ وهذا كقولِهِ تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79]، وقولِهِ:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53]، وقولِهِ:{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، وقولِهِ:{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16]؛ يَعني: ما ينبغي، والمرادُ بذلكَ: تعظيمُ الأمر، وهو نهيٌ في صورةِ نفيٍ؛ فإنَّه لا أعظَمَ مِن القتلِ إلَّا الكُفْرُ، ولو سُبِقَ الكفرُ بذَنْبٍ، لسبَقَهُ القتلُ.
وقد اختُلِفَ في سببِ نزولِ هذه الآيةِ؛ فقد روى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ؛ أنَّها نزلَتْ في عيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ أَخِي أبي جَهْلٍ لأُمِّه، وهي أسماءُ بنتُ مَخْرَمَةَ، وذلك أنَّه قتَلَ رجُلًا كان يُعذِّبُهُ معَ أخيهِ على الإسلام، وهو الحارثُ بن يَزِيدَ الغامديُّ، فأضمَرَ له عَيَّاشٌ السُّوءَ، فأسلَمَ ذلك الرجُلُ وهاجَرَ، وعيَّاشٌ لا يَشعُرُ، فلمَّا كان يومُ الفتح، رآهُ فظَنَّ أنَّه على دِينِه، فحمَلَ عليه فقتَلَهُ؛ فأنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ (1).
(1)"تفسير الطبري"(7/ 306)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1031).