الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي قولِه: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} استحبابُ العفوِ عن الزَّلَّاتِ، وأحَقُّ الناسِ بالعفوِ أقرَبُهم؛ كالوالدَيْنِ والأبناء، والإخوةِ والزوجاتِ، ومِثْلُهم العَفْوُ عن الخادمِ؛ لأنَّ كثرةَ القُرْبِ والمُخالَطةِ تُؤدِّي إلى كثرةِ الأخطاءِ في حقِّ الإنسانِ؛ فالناسُ يُخْطِئُونَ، ولكنْ لا يُشاهِدُ خطَأَهم ويَتأذَّى منه إلا مَن خالَطَهم، والبعيدُ لا يَرى الخطأَ إلا بمقدارِ مُخَالَطَتِه، ثمَّ إنَّ الناسَ يَقْوَوْنَ على التصنُّعِ والتحفُّظِ مِن الخطأِ مع البعيد، ولا يَقْوَوْنَ مع القريبِ؛ لهذا كان العفوُ عن خطأِ المُخالِطِ والجليسِ أعظَمَ مِن العفوِ عن خطأِ غيرِه؛ ولذا جاءَ في "سُنَنِ أبي داودَ" و"الترمذيِّ"؛ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ؛ قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، كم نعفُو عن الخادمِ؟ فصَمَتَ، ثمَّ أعادَ عليه الكلامَ، فصَمَتَ، فلمَّا كان في الثالثة، قال:(اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)(1).
وقيل: إنَّ هذه الآيةَ نزَلَتْ في العفوِ عن الخادمِ والمملوكِ؛ روى ابنُ المُنذِرِ عن أبي جعفرٍ، عن ربيعِ بنِ أنسٍ؛ في قولِ اللَّهِ - جلَّ ثناؤُه -:{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ؛ قال: "المملوكِينَ"(2).
حدودُ العفوِ وكظمِ الغيظِ:
والشريعةُ تَستحِبُّ العفوَ وكَظْمَ الغيظِ ما كان بمقدورِ الناسِ وفي طاقتِهم ووُسْعِهم، وما يُعجَزُ عن تحمُّلِه؛ فيُستحَبُّ الانتصارُ للنفسِ بالعَدْلِ، وطلبُ الإنصافِ بالحقِّ؛ ففي "المسنَدِ" وعندَ "الترمذيِّ" وغيرِه؛ مِن حديثِ حُذيفةَ؛ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ
(1) أخرجه أحمد (5899)(2/ 111)، وأبو داود (5164)(4/ 341)، والترمذي (1949)(4/ 336).
(2)
"تفسير ابن المنذر"(1/ 384).
نَفْسَهُ)، قالوا: وكيف يُذِلُّ نفسَه؟ قال: (يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ)(1).
والناسُ يَتفاوَتُونَ في طبائِعِهم وعزائِمِهم؛ فربَّما يكونُ الأذى واحدًا، يَقْدِرُ عليه واحدٌ، ويَعْجِزُ عنه الآخَرُ، فيَخْتَلِفُونَ في القوَّةِ الباطنة، كما يَختلِفونَ في القوَّةِ الظاهرةِ.
* * *
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
في الآيةِ: وجوبُ الجهادِ عندَ استنفارِ الإمامِ وعندَ دَهْمِ العدوِّ، ويحرُمُ التولِّي والقعودُ في مثلِ هذه الحالِ؛ ولذا قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]، وفي "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ ابنِ عباسٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم:(وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ، فَانْفِرُوا)(2).
والآيةُ نزَلَتْ في غزوةِ بَدْرٍ في تَخَلُّفِ بعضِ الصحابةِ عن أمرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ طَلَبَ مَنهم البقاءَ في أماكنِهم فخالَفُوه، والمنافِقونَ تخلَّفُوا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن نصفِ الطريقِ قبلَ رؤيةِ العدوِّ، وكِلا الأمرَينِ محرَّمٌ.
ويَظهرُ التحريمُ في الآيةِ في موضعَيْنِ:
(1) أخرجه أحمد (23444)(5/ 405)، والترمذي (2254)(4/ 523)، وابن ماجه (4016)(2/ 1332).
(2)
أخرجه البخاري (1834)(3/ 15)، ومسلم (1353)(2/ 986).
الأولُ: في قولِه: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} ؛ واسْتِزلالُ الشيطانِ إثمٌ وذنبٌ.
الثاني: في قولِه: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ؛ فلا يُعفَى إلا عن خطأٍ أو إثمٍ.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنَّ اللهَ لا يَحْرِمُ عبدَهُ مِن عملِ الخيرِ ومباشَرةِ البِرِّ إلا بذنبٍ؛ كما في قولِه: {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} .
وقد روى ابنُ جريرٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ؛ في قولِهِ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآيةَ: "وذلك يومَ أُحُدٍ، ناسٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَلَّوْا عن القتالِ وعن نبيِّ اللهِ يومَئذٍ، وكان ذلك مِن أمرِ الشيطانِ وتخويفِهِ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل ما تَسْمَعُونَ: أنَّه قد تجاوَزَ لهم عن ذلك وعَفَا عنهم"(1).
وكلَّما كان المسلِمونَ مِن العدوِّ أقرَبَ، كان إثمُ التولِّي أعظَمَ؛ لأنَّ التولِّيَ يُخِلُّ بمواضعِ قوةِ الجيشِ؛ فلا يَملِكُونَ إعادةَ سياستِهم وخُطَطِهم إذا الْتَحَمُوا، بخلافِ ما لو كان التولِّي في أولِ الطريقِ أو في أوسطِه.
* * *
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161].
نزَلَتْ هذه الآيةُ في قَطِيفَةٍ فقَدَها الناسُ، فظَنُّوا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخَذَها؛ كما رواهُ أبو داودَ والترمذيُّ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما؛ قال: "نزَلَتْ هذه الآيةُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} في قطيفةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَت يومَ بَدْرٍ،
(1)"تفسير الطبري"(6/ 172).