الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الحقيقةِ، وربَّما يتناقضُ في الأذهانِ القاصرةِ، فيُؤمِنونَ بجميعِ القرآنِ، ويَفصِلونَ في متشابِهِه بمُحكَمِه.
الحكمةُ مِن وجودِ المتشابِهِ في القرآن:
ووجودُ المتشابهِ في القرآنِ لا يُنافي الحِكْمةَ مِن إنزالِه، وهو الهدايةُ والنورُ والبيِّنةُ وإقامةُ الحُجَّةِ على الخَلْقِ؛ فاللهُ جعَلَ في أصلِ الحِكْمةِ مِن الخَلْقِ ابتلاءَ الناسِ واختبارَهم، والابتلاءُ على نوعينِ:
أولًا: ابتلاءُ الأبدانِ بالآلامِ والأسقامِ، والجروحِ والقتلِ، وغيرِها.
ثانيًا: ابتلاءُ الأذهانِ - وهي العقولُ والقلوبُ - بشهواتِها ونزواتِها وأطماعِها.
وجعَلَ لكلِّ ابتلاءٍ أسبابًا تُمكِّنُ له، ومِن هذا ابتلاءُ اللهِ للعقولِ بالمتشابهاتِ ومدى ثباتِ النفوسِ ومَيْلِها مع وضوحِ المُحكَماتِ البيِّناتِ؛ لِيختبِرَ اللهُ الصادقَ مِن المنافِقِ.
المتشابِه المُطلقُ:
وقد اختَلَفَ العلماءُ في وجودِ المتشابهِ المطلَقِ في القرآن الذي لا يعلمُه أحدٌ إلا اللهُ على قولَيْنِ، واختَلَفُوا في الوقفِ على اسمِ (الله) سبحانَهُ في قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} :
فقال بالعطفِ جماعةٌ؛ كابنِ عباسٍ ومجاهدٍ والقاسم بنِ محمدٍ، قال ابنُ عباسٍ:"أنا مِن الراسِخينَ في العِلمِ الذين يَعلَمونَ تأَويلَه"(1).
ومَن قال بذلك، قال: إنَّ اللهَ لم يجعَلْ في كتابِه متشابهًا إلا علَّمَهُ أحدًا مِن العلماءِ، ولا تشابُهَ مطلَقٌ في القرآنِ؛ وإنَّما هو نسبيٌّ يفُوتُ على عالِمٍ أو علماءَ فيَعرِفُهُ عالمٌ أو علماءُ، ولكنَّه لا يتشابَهُ في الأرضِ
(1)"تفسير ابن كثير"(2/ 11 ط / سلامة)
كلِّها على كلِّ أحدٍ؛ ويُؤيِّدُ هذا حديثُ النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ في "الصحيحينِ"؛ قال صلى الله عليه وسلم: (الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)(1)، فقال: كثيرٌ، ولم يقلْ: جميعٌ، وقد يُقالُ: إنَّ هذا خاصٌّ بما يُكلَّفُ به العِبادُ عملًا وعبادةً؛ ولذا قال: (الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ)، فيدخُلُ في المتشابِه مِن أمورِ الأخبارِ والغيبِ ما لا يدخُلُ في التشريعِ حلالًا وحرامًا.
وقد جعَلَ غيرُ واحدٍ مِن السلفِ الحلالَ والحرامَ كلَّه مُحْكَمًا، كما هو ظاهرُ قولِ ابنِ عباسٍ، قال ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ؛ في قولِه، {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}: ما فيه مِن الحلالِ والحرامِ، وما سوى ذلك فهو متشابِهٌ (2).
والعطفُ في الآيةِ تشريفٌ للعلماءِ ومَنزِلَتِهم عندَ اللهِ؛ إد عَطَفَهم عليه سبحانَه.
وقال جماعةٌ مِن السلفِ بالوَقْفِ على اسمِ (الله) سبحانَهُ؛ وهو قولُ ابنِ عمرَ، وعائشةَ، وابنِ مسعودٍ، وأُبَيٍّ، ونُقِلَ عن مالكٍ وغيرِه.
والتحقيقُ: أنَّ التشريعَ بالحلالِ والحرامِ لا مُتشابِهَ مطلقٌ فيه؛ لحديثِ النُّعْمانِ؛ لأنَّ اللهَ لا يُكلِّفُ العِبادَ بعملٍ، ثمَّ يجعلُهُ مُتشابهًا عليهم، وأمَّا أمورُ الأخبارِ والغيبِ، فالتشابُهُ المطلَقُ فيها إنْ وُجِدَ فهو نادِرٌ، ويُوكلُ إلى عالِمِهِ وحدَهُ سبحانَه؛ لأنَّ اللهَ قصَدَ في اللفظِ بيانَ معنًى، وما وراءَهُ مِن أمورِ الغيبِ ليس مقصودًا للعقلِ أن يتفكَّرَ فيها، فلا يُسمَّى متشابهًا مطلقًا عليه؛ لأنَّ المُتشابِهَ هو ما يَطلُبُ له العقلُ صورةً أو حقيقةً وتردَّدَ بينَ معنيَيْنِ أو صورتينِ أو أكثرَ بلا مرجِّحٍ، والعقولُ منهيَّةٌ
(1) أخرجه البخاري (52)(1/ 20)، ومسلم (1599)(3/ 1219).
(2)
"تفسير الطبري"(5/ 196)، و"تفسير ابن المنذر"(1/ 119).
عن تمثيلِ اللهِ وتشبيهِ صِفاتِهِ بالمخلوقِينَ ولو في الأذهانِ، وهي مطالَبةٌ بفَهْمِ مُرادِ اللهِ مِن ذِكْرِ صفاتِه وأسمائِه؛ بمعرفةِ آثارِها على العِبادِ، والتعرُّفِ على الخالقِ وكمالِه، وجمالِه وجلالِه، وصَرْفِ العبادةِ له وحدَه، وكلُّ ما وراءَ ظواهرِ الأدلةِ في الأسماءِ والصفاتِ ليس مأذونًا للعقولِ أنْ تنظُرَ فيه، فضلًا عن أنْ تدَّعِىَ تردُّدَها في فهمهِ بينَ معانٍ وصورٍ محصورةٍ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ، فبَحْثُ المِثْلِيَّةِ منهيٌّ عنه، وكلُّ ما وراءَ ظواهرِ الأدلةِ ممَّا يتصوَّرُهُ العقلُ: جهلٌ، والجهلُ لا يكونُ متشابِهًا وإنْ تعدَّدَ في الذهنِ؛ لأنَّ الحقَّ ليس في واحدٍ منها، والمتشابِهُ هو ما تردَّدَ الحقُّ فيه بينَ عِدَّةِ مَعَانٍ مُنقدِحةٍ في الأذهانِ، ولو صحَّ ذلك، لَسُمِّيَ كلُّ جهلٍ: متشابِهًا.
ومَن قال بنفيِ التشابُهِ المطلَقِ في القرآنِ كلِّه، علَّلَ ذلك بمخالَفةِ مقتضَى التنزيلِ، وهو الإحكامُ، ولأنَّ السلفَ لم يترُكُوا آيةً في القرآنِ إلا ولهم تأويلٌ فيها جميعِها، ولو كان في القرآنِ متشابهٌ، لَمَا جَسَرُوا عليه؛ وإنَّما ما يَتَشَابَهُ على أحدٍ يُفسِّرُه غيرُه.
* * *
قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وفي الآيةِ حُكْمُ الإكراهِ، ومُداراةِ الكافِرينَ عندَ خوفِهم، وأصرحُ مِن ذلك في سورةِ النحلِ في قولِه تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، ويكونُ الكلامُ على الآيةِ في النحلِ، بإذنِ اللهِ.
* * *
ذكَرَ اللهُ نشأةَ عيسى ببيانِ نشأةِ أُمِّهِ، بيانًا لِبُطْلانِ ما يَعْتَقِدُهُ النصارى فيه مِن أنَّه ابنٌ للهِ، تعالى اللهُ عن ذلك، وأسلوبُ القرآنِ عندَ ردِّ وإبطالِ عقيدةٍ: أن يُبَيِّنَ أصْلَها فيَنقُضَه لِتَنتقِضَ هي تَبَعًا؛ فالجدالُ في فروعٍ أُصولُها خاطئةٌ لا يُوصلُ إلى حقٍّ، فيزعُمونَ أنَّ عيسى ابنٌ للهِ، تعالى اللهُ، وعيسى له أمٌّ، وأُمُّه مريمُ، ومريمُ لها أمٌّ وأبٌ، ولهما أمَّهاتٌ وآباءٌ إلى آدمَ، فمِن أين أتَتْ بُنُوَّتُهُ للهِ؟ ! ولذا ذكَرَ اللهُ الزوجيَّةَ بينَ امرأةِ عِمرانَ وعمرانَ، فقال:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} ؛ إشارةً إلى الأبوَّةِ والأمومةِ لمريمَ، وذكَرَ الله اسمَ مريمَ، ولم يذكُرِ اسمَ أمِّها في القرآنِ؛ لأنَّ نَسَبَ عيسى يَرجِعُ إلى مريمَ ثمَّ أبيها، لا يَرجِعُ إلى أمِّها، والناسُ تُنسَبُ إلى آبائِهم، واسمُ أمِّ مريمَ: حَنَّةُ؛ على قولِ عِكرِمةَ وقتادةَ؛ فعيسى هو ابنُ مريمَ بنتِ عمرانَ، ولا يقالُ: عيسى ابنُ مريمَ بنتِ حَنَّةَ، وإنَّما ذُكِرتْ مريمُ؛ لأنَّ عيسى نُسِبَ إليها لعدمِ الأبِ، ولمَّا كان لمريمَ أبٌ، تُركَتِ الأمُّ حَنَّةُ، ودُكِرَ الأبُ عِمْرانُ، ولمَّا كانت أمُّ مريمَ لا أثَرَ لها في نسبِ عيسى، قال:{امْرَأَتُ عِمْرَانَ} ، وفي الآيةِ أنَّ مَن لا يُعرَفُ أبوهُ، لا حَرَجَ أن يُنسَبَ إلى أمِّه.
قولُه: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} :
المُحرَّرُ هو المُتحرِّرُ مِن كلِّ قيدٍ يَصرِفُهُ عمَّا أُرِيدَ له، والمرادُ هنا: الانقطاعُ للكنيسةِ، فيخدُمُها وعُبَّادَها لا ينشغلُ بدُنياهُ عن ذلك.
روى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ؛ في قولِه:{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} ؛ قال: للكنيسةِ يخدُمُها.