الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القتالُ وقَصدُ الدنيا:
وفي هذه الآيةِ: أن القتالَ في سبيلِ اللهِ إذا دخلَتهُ الدنيا، فسَدَ وأفَسدَ أهلَهُ، فلا يُفسِدُ الجهادَ إلا طمعُ المجاهِدِينَ في الدُّنيا؛ لذا قال الله:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} ، فتَميلُ نفسُ المجاهدِ إذا طَمِعَ في الدنيا، وتساوَتِ الاحتمالاتُ، إلى ترجيحِ أحَدِ الاحتمالَينِ وهو الذي يَهواهُ لدنياه، فيُفسدُ الدِّينَ والدنيا، وهنا يتشوَّفُ إلى عدمِ إسلامِ الخَصْمِ عندَ اشتباهِ أمرِه؛ لاغتنامِ مالِه، وكَسبِ سُلطانِه.
وقوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أمرٌ خفيٌّ لا يَعلمُهُ إلَّا اللهُ، وهو على درجاتٍ في نفوسِ مَن قاتَلَ في سبيلِ الله، وبمقداره لا يؤتِي الجهادُ ثِمَارَه، وأخرَجَ ابنُ أبي شَيبةَ وأحمدُ وابنُ المُنذِر، عن ابنِ مسعودٍ؛ قال:"إنَّ النساءَ كُنَّ يومَ أحُدٍ خلفَ المسلِمينَ يُجْهِزْنَ على جَرحَى المشرِكينَ، فلو حلَفتُ يومئذٍ رجَوتُ أن أبَرّ أنَّه ليس أحد منَّا يُريدُ الدُّنْيا، حتَّى أنزَلَ اللهُ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] (1) ".
والدُّنيا - ولو كانَت قليلةً - تحجب الإنسانَ عن رؤيةِ الآخرة، فالدِّينارُ مِنَ الذهَبِ لو قَرَّبَتهُ العينُ منها، لم ترَ جبلَ الذَّهَب، فالدنيا ليست بحَجمِها؛ وإنَّما بقُربِها، فمَنِ انتفَعَ بها وأبعَدَها، لم تَضُرَّه ولو كانت كثيرةً، ومَن قرَّبَها، أعمَتهُ ولو كانت قليلةً.
وأنْقَى الناسِ أنقاهُم مِن الدُّنيا، لأنها تحجُبُ القلبَ عن رؤيةِ الحقِّ، وَيختلِفُ أثرُ الدنيا بحسَبِ منازِلِ أصحابِها؛ فالدنيا في قلبِ
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(36783)(7/ 371)، وأحمد في "مسنده"(4414)(1/ 463)، وابن المنذر في "تفسيره"(2/ 445).
المجاهِدِ ولو كانتْ قليلةً أشدُّ عليه وعلى الناسِ مِن الدُّنيا في غيرِه، وقليلُ الدنيا في قلبِه كثيرٌ؛ لأنَّه أقرَبُ إلى الآخِرة، ومحلُّه التجرُّدُ والخلوصُ، والدنيا في قلبِ العالِمِ أشدُّ عليه وعلى الناسِ مِن العامَّةِ؛ لأن فتنةَ العالم فتنةٌ عامَّةٌ؛ وفتنةَ آحادِ العامَّةِ خاصَّةٌ.
وإنما نزلت هذه الآيةُ: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} لأن منِ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم مَن قتَلَ كافرًا أسلَمَ بعدَ طلَبه؛ لأخذِ غنيمتِه، وغاب عنه أن غنيمةَ الآخِرة، بإسلامِه أعظَمُ مِن غنيمةِ الدنيا بكُفرِه.
وهذه الآيةُ نزلَت في بعضِ الصحابةِ الذين قتَلُوا مَن ظهَرَ إسلامُهُ وتأوَّلُوا كُفْرَه؛ ففي البخاري؛ مِن حديثِ عمرٍو، عن عطاءٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ؛ قال: قال ابن عباسٍ: "كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيمَةٍ لَهُ، فَلَحِقَهُ المسلِمُونَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيكم، فَقتلوهُ وَأخَذُوا غُنَيمَتَهُ، فَأنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ إِلَى قولهِ:{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؛ تِلكَ الغُنَيمَة (1).
وجاء في سبب نُزولها غيرُ ذلك؛ فرُوِيَ أنها نزلَت في المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ؛ أخرَجَهُ البخاري معلَّقًا ومختصَرًا (2)، وأخرَجَة البَزَّارُ مسنَدًا ومطولًا (3)، وجاء أنَّها نزلَت في مُحَلِّمِ بنِ جثامَةَ بنِ قَيس، أخرَجَهُ أحمدُ (4)، وجاء أنَّها نزلَت في أسامةَ بنِ زيدٍ؛ كما رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ مِن مُرسَلِ مسروقٍ، وابنُ جريرٍ من مُرسَلِ السُّدِّيِّ (5).
وقد تتَعدَّدُ الحوادتُ فتَنزِلُ الآيةُ عليها جميعِها، فيَحمِلُ الصحابةُ
(1) أخرجه البخاري (4591)(6/ 47)، ومسلم (3025)(4/ 2319).
(2)
أخرجه البخاري (6866)(9/ 3).
(3)
أخرجه البزار في "مسنده"(5127)(11/ 317).
(4)
أخرجه أحمد (23881)(6/ 11).
(5)
"تفسير الطبري"(7/ 358)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1042).