الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسلَمتُ (1)؛ ولهذا فخالد بن الوليدِ قتَلَ مَن قالَها؛ لعلِمِهِ أنَّها لا تُقالُ مدحًا، ولا يُرادُ بها الخروجُ مِن الباطلِ إلى الحقِّ؛ وإنَّما عَكسُه، ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم آخَذَهُ عليها؛ لأنَّهم لا يُحسِنونَ تعبيرًا عن تَركِ دينِهم إلا إيَّاها، فأرجَعُوها إلى أصلِها؛ مِن تَركِ دينٍ إلى دينٍ.
ونطقُ اليهوديِّ والنصراني لكلمةِ يتديَّن بمعناها: لا يدُلُّ على إسلامِهِ وتدينه بالحنيفيَّةِ؛ كقولِه: نحن مؤمِنونَ؛ فهم يُسمُّونَ أنفسَهم بذلك، فمَن قالَها لا تَعصِمهُ.
والمرادُ بعرضِ الدنيا في الآيةِ: الغَنِيمَة، فلا يَقبَلُ إسلامَ الكافر؛ لِيُحِلَّ ما معَه مِن الغنيمة، وهذا لا يكونُ إلا في قلبِ مَن ضعُفَت مغانمُ الآخِرةِ مِن قلبهِ حالَ فِعلِهِ أو غابَتْ؛ لهذا ذكَّرَ اللهُ بها في قوله:{فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} .
تذكُّرُ الضلالةِ قبلَ الهدايةِ:
وفي قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} ؛ روى
البخاري معلقًا في "صحيحِه"، عن سعيدٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ؛ قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم للمِقدَادِ: (إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ يُخفِي إِيمانَهُ مَعَ قَومٍ كفَّارٍ، فَأَظهَرَ إيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، فكذَلِكَ كُنتَ أنتَ تُخفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِن قبل)(2).
وفي هذا: أنَّه ينبعي أنْ يذكُرَ المؤمن حالَهُ قبلَ هداية، وفَضْلَ اللهِ عليه، وإنْ وُلدَ مهتدِيًا يَجعَلُ مِن نفسِهِ مكاانَ عدوِّه؛ ليدرِكَ شيئًا مِن حالِ عدوِّه، فيَعذِرَه عندَ قيامِ عُذْرِه، وقد كان بعضُ الصحابةِ يَستخفِي بإيمانِهِ خوفًا مِن قومِه؛ فربَّما كان الرجلُ الذي أبْدَى إسلامَهُ عندَ القتالِ خرَجَ مُكرَهًا؛ قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ في قوله تعالى:{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} ؛
(1) أخرجه ابن حبان (6879)(15/ 302).
(2)
أخرجه البخارى (6866)(9/ 3).
قال: "تَستَخْفونَ بإيمانِكُم كما استَخفَى هذا الرَّاعي بإيمِانه"(1).
ومن هذا قولُهُ تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26]، فإن تذكَّرَ الإنسانُ سالفَ أمرِه، لا بدَّ أن يَجِدَ مِن تغيُّرِ حالِهِ ما يُدرِكُ به فضلَ اللهِ عليه.
وتذكُّرُ الإنسانِ لسابقتِهِ يدعُوهُ إلى التواضُعِ وحضورِ العدلِ والإنصافِ في نفسِه، وكَسرِ شَوكةِ الكِبرِ منها؛ وهدا يحتاجُ إليه كل أحدٍ؛ لتطهيرِ النَّفْس، والعدلِ مع الناس، والرحمةِ بهم؛ فمَن كان عالِمًا، تذكَّرَ جَهلَهُ، فرَفَقَ بالجاهلِ وعذَرَه وعَلَّمَه، ومَن كان مسلِمًا بعدَ كُفرِه، تذكَّرَ كُفْرَه، فعرَفَ مواضِعَ مؤاخَذةِ الكافر، ومَن كان غنيًّا، تذكَّرَ فَقْرَهُ فرَحِمَ الفقيرَ وأعطاه.
وتذكُّرُ الإنسانِ حالَة قبلَ النعمةِ يذكِّرُهُ بفضلِ اللهِ عليه ونعمتِهِ ورحمتِهِ به، فيَتواضعُ وَيرحم ويشكرُ؛ وهذا يحتاجُ إليه كل أحدٍ؛ قال اللهُ تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6 - 8]، ثم قال اللهُ مبينًا أثرَ التذكيرِ بسالفِ الأمرِ:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11} [الضحى: 9 - 11]، فذكَّرَهُ باليُتم، ثم نَهاهُ عن قَهرِ اليتيم، وذكرَهُ بعدمِ العِلْم، ثمَّ نَهاهُ عن نَهرِ السائلِ الجاهل، والسائلِ الفقيرِ.
قال قتادةُ في قولِهِ تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} : "كانَتْ هذه منازِلَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قبلَ أن يَبعثَهُ اللهُ سبحانه وتعالى"؛ رواهُ سعيد عن قتادةَ؛ أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ (2).
(1)"تفسير الطبري"(7/ 363)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1041).
(2)
"تفسير الطبري"(24/ 489).
وفي الآيةِ: تكرارٌ للأمرِ بالتبيُّنِ؛ لأهميتِهِ وعِظمِ أثَرِ التفريطِ فيه؛ ففي أوَّلها قال: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} ، ثم قال:{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} .
قال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: "وعيدٌ مِنَ اللهِ مرَّتيَنِ"؛ رواه ابنُ أبي حاتمٍ، عن حبيب بنِ أبي عَمرَةَ، عنه (1).
* * *
في هذه الآية: فَضْلُ المجاهِدِينَ على القاعِدِينَ غيرِ المعذورِينَ؛ ولذا قال: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ؛ لأن الآيةَ نزَلَت في بَدْرٍ؛ كما رواهُ البخاريُّ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ (2)، وكان النفِيرُ لبَذرٍ فرضَ عينِ على مَن وجَدَ ظهرًا لإدراكِ قافلةِ قريشٍ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استَنْفَر أصحابَ الظهُورِ مِن أصحابِه، لا كلَّهم، فتعين على مَنِ استنفِرَ.
ولمَّا استيقَنَ أبو سفيانَ خروجَ النبي صلى الله عليه وسلم إليه، استنفَرَ قومَهُ بمكِّةَ، فلحِقَهُ نحو ألف رجُلٍ، وقطَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بقَتالِهم؛ لأنهم أرادُوهُ، وربَّما لو لم يقاتِل مدَدَ قريشٍ، لَلَحِقوهُ إلى المدينة، فكان على مَن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم بعدَ قطعِهِ متعيِّنًا أن يُقاتِلَهم؛ لأنه دفعٌ لصائلةِ المشرِكِينَ التي ستتبَعُ الصحابةَ إلى المدينة، فاللهُ أعلَمَ نبيهُ بخروجِ فِرقةٍ مِن قريشٍ لنُضرةِ أبي سُفْيانَ؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1042).
(2)
أخرجه البخاري (3954)(5/ 73).