الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو أبو سعيد الحسن أبي حسن البصري من التابعين، ولد بالمدينة، لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن أبي الخطاب رضي الله عنه، وأمه اسمها خيرة، وكانت موالاة لأم سلمى زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت تعطيه ثديها إذا اشتغلت أمه عنه، فدر ثديها له باللبن، فأظهر الله تعالى بركة ذلك اللبن عليه، وأبوه مولى لامرأة من الأنصار. وكان أحسن الناس لفظاً، وأبلغهم عظاً، وكان زاهداً عالماً مقدماً في العلم والدين وعلى نظرائه من التابعين، وكان الحجاج له معظماًُ ومتعجباً من فصاحته، ولم ينفك عن مجلسي وعظ، وتدريس علم أن مات رحمة الله تعالى.
قال أبو عمر وبن العلا: وما رأيت قط أو عظ ولا افصح من الحسن البصري.
قال أبو أيوب السختياني: ما سمع أحد كلام الحسن إلا ثقل عليه كلام الرجل. وقال الشعبي: ما رأيت مثل الحسن بين العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف، وما شهدما مشهداً إلا برز علينا بعلمه وفضله.
وقال الله، وقلنا موافقة للموالاة.
وكان يقول: جدود هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور، واقرعوها فأنها طامحا، وإنكم إن لم تقرعوها تنزع بكم إلى شر غاية. قال الشعبي: قدمنا إلى الحجاج في البصرة في جماعة من قراء الشام والعراق، في يوم طائف شديد الحر، وهو في أخر ثلاث أبيات، وقد أرسل فيه الثلج، والحجاج قاعد على سريره، وعنبسة بن سعيد إلى جنبه، ودخل الحسن أخر من دخل فقال الحجاج: مرحباً بأبي سعيد، وطاطاً له رأسه وإعظاماً وتلطفاً به. حتى جلس وجاءت جارية بدهن ما شممت مثل رائحته، فوضعته على رأس الحسن وحده فقال له الحجاج: يا أبا سعيد، مالي أراك منهوك الجسم؟ لعل ذلك من قال نفقة أو سوء ولاية، ألا نأمر لك بنفقة توسع بها على نفسك، وخادم لطيف يخدمك فقال الحسن: أني من الله لفي سعة ونعمة وعافية ولكن الكبر والحر، فأقبل الحجاج على عنبسه فقال: لا والله بل العلم بالله والزهد في ما نحن فيه. فلم يسمعها الحسن وسمعتها أنا القربي بن عنبسة، وجعل الحجاج يسأله حتى ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فنال منه الحجاج، ونلنا منه مرضاة له وفرقاً من شره، والحسن عاض على إبهامه فقال الحجاج: مالي أراك ساكتاً يا أبا سعيد فقاتل: وما عسى أن أقول. قال: أخبرنا برأيك في أبي تراب قال: إن سمعت اله عز وجل يقول: (وما جعلنا القبلة التي أنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبته وإن كانت الكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم) .
فعلي ممن هدى الله، ومن أهل الأيمان، وأبن عمي النبي صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته، أحب الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات، لا تستطيع أنت ولا من حضر أن يحظرها عليه، ولا يحول بيني وبينا فتغير وجه الحجاج وقال منغضباً على سريره ودخل بيتاً خلفه، وخرجنا فأخذت بيد الحسن فقلت: يا أبا سعيد، أغضبت الأمير وأوغرت صدره فقال: إليك عني يا عامر، ألست شيطاناً من الشياطين إذا توافقه على رأيه؟ ألا صدقت إذاً سئلت، أو سكت فسلمت. فقلت: قلتها والله وأنا أعلم بما فيه. قال الحسن: ذلك أشد في الحجة عليك، وأعظم للتبعة. فلم نمكث إلا قليل حتى خرجت التحف والطرف من الحجاج للحسن، واستخف بنا الحجاج، فكان أهلاً لما اتى إليه، وكنا أهلاً لما أتى إلينا. توفي رحمه الله سنة عشر ومائة، وله تسعون سنة مات في رجب ليلة الجمعة قال عبد لواحد بن زايد: رأيت ليلة مات الحسن رحمه الله في المنام، كأن أبواب السماء مفتحة، كأن الملائكة صفوف، فقلت: إن هذا الأمر عظيم فقال لي قائلاً: إن الحسن البصري قد قدم على الله وهو عنه راضي، وسمع بعض أصحابه في منامه ليلة مات كأنه منادياً ينادي في السماء يقول (إن الله اصطفى أدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) واصطفى الحسن على أهل زمانه رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه.
ترجمة الشعبي
.
حيث ذكرت ترجمة الحسن رحمه الله بدا لي أن أذكر ترجمة الشعبي رحمه الله تعالى. هو عامر بن عبد الله بن شراحيل بن عبيد بن شعب همدان من حمير، فمن كان منهم باليمن فهو حميري، يقال: شعباني، ومن كان في العراق فهو همداني ويقال له: شعبي. ولد رحمه الله لست سنين من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن والحسين وجماعة من صحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وهو كوفي وبه يضرب المثل في حفظ، ويقال: أحفظ من شعبي، قال الزهري رحمه الله: العلماء أربع: سعيد بن المسيب بالمدينة، وعامر الشعبي بالكوفة، والحسن البصري في البصرة، ومكحول بالشام.
قال أبن شبرمة: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء. إلى يومي هذا، ول حدثني رجل قط حديثاً إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي. قال الشعبي لأصحابه: ما أروي أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيد.
وكان رحمه الله فقيهاً عالماً أديباً، وكتب عبد الملك إلى الحجاج: إن بعث لي رجل يصلح للدين والدنيا أتخذه سميراً وجليساً وبعث غليه بالشعبي، فلما دخل عليه وجده مغتماً فقال له: ما بال أمير المؤمنين قال: ذكرت قول زهير:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة
…
خلعت بها عني عذار لجامي.
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى
…
فكيف بمن يرمي وليس برامي.
فلو أنني أرمي بنيل رميتها
…
لكنني أرمي بغير سهام.
على الراحتين تاراً وعلى العصا
…
أنوء ثلاثاً بعهدهن قيامي.
قال الشعبي أليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة رضي الله عنه: كأني قدجاوزت سبعين حجة=خلعت بها عن منكبي ردائياً.
فلما بلغ سبعاً وسبعين قال:
باتت تبكي إلى موتي مجهشة
…
وقد حملتك سبعاً بعد سبعيناً.
فإن تراخت ثلاثاً تبلغي أملي
…
وفي الثلاث وفاء للثمانينا. ً
فلما بلغ التسعين قال:
ولقد سئمت من الحياة طولها
…
وسؤال هذا الناس كيف لبيد.
وعنيت ستاً قبل مجرى داحس
…
لو كان للنفس اللجوج جلود.
فلما بلغ عشرين ومئة قال:
أليس ورائي إن تراخت منيتي
…
لزوم العصا تحني عليها الأصابع.
أخبر أخبار القرون التي مضت
…
أقوم كأني كلما قمت راكعاً.
فلما بلغ الثلاثين ومئة حضرته الوفاة فقال:
تمنى أبنتاي أن يعيش أبوهما
…
وهل أنا لا من ربيعة أو مضر.
وقولاً هو المرء بالذي أنا أهله
…
ولا تخمشا خداً ولا تحلقا شعر.
وقولاً هو المرء الذي لا يصدقه
…
أضاع ولا دخان الخليل ولا غدر.
إلى الحول ثم أسم السلام عليكما
…
ومن يبك حولاً كاملاً فقد أعتذر.
قال الشعبي: فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها، ووجهه عبد الملك إلى مالك الروم في بعض الأمور، فلما قدم عليه وروى وذكائه وجودة ذهنه أستكبره وجل في عينه فقال له: من بيت أهل الملك أنت، قال: لا فلما أراد الرجوع إلى عبد الملك أعطاه رقعة لطيفة وقال له: إذا بلغت صاحبك جميع ما يحتاج إلى معرفته من ناحيتنا فادفع إليه هذه الرقعة، فلما رجع إلى عبد الملك ذكر له ما أحتاج إلى ذكره ونهض، فلما خرج ذكر الرقعة فرجع فقال: يا أمير المؤمنين أنه حلمي إليك رقعة أنسيتها، ثم دفعها إليه، فلما قرأها أمر برده فقال: أعلنت ما في الرقعة؟ قال: لا. قال: إن فيها: عجبت من العرب كيف ملكوا غير هذا. أفتدري لما كتب إلي بهذه قال: حسدني إليك فأراد أن يغريني بقتلك. قال الشعبي: لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني، فبلغ ذلك أمير الروم فقال: لله أبوك ولله ما أردت إلا ذلك.
وكان الشعبي قد خرج مع عبد الرحمن الأشعث، فلما قتل أبن الأشعث أتي به الحجاج أسيراً فقال له: وأنت يا شعبي ممن خرج علينا، فقال: أصلح الله الأمير، أحزن بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، وضاق المسلك، وخبتطنا فتنة لم نكن فيها بررة أولياء، ولا فجرة أقوياء، فقال الحجاج: لله أبوك صدقت، والله ما برمتم بخروجكم علينا ولا قويتم، خلو سبيله.
ودخل الشعبي الحمام فرأى داود الأودي بلا أزار فغمض عينيه فقال له داود: متى ذهب بصرك يا أبا عمرو؟ فقال مذهتك الله سترك. ومات رحمه سنة 104 أربع ومئة وهو أبن اثنين وثمانين سنة رحمه الله تعالى.