الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر صرف قاضى القضاة شرف الدين ابن عين الدولة عن القضاء بمصر والوجه القبلى، وتفويض ذلك لقاضى القضاة بدر الدين السّنجارى
وفى يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الآخر، من هذه السنة، كتب السلطان الملك الصالح إلى قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة كتابا، من جملته: أن القاهرة المحروسة لما كانت دار المملكة، وأمراء الدولة وأجنادها مقيمون بها، وحاكمها مختص بحضور دار العدل- تقدّمنا أن يتوفّر القاضى على القاهرة وعملها، لا غير. وفوّض السلطان قضاء القضاة، بمصر والوجه القبلى، للقاضى بدر الدين أبى المحاسن: يوسف السّنجارى قاضى سنجار. ثم مرض القاضى شرف الدين المذكور، إثر ذلك، ومات فى هذه السنة.
ذكر وفاة قاضى القضاة شرف الدين ابن عين الدولة، وشىء من أخباره
وفى ليلة الخميس، التاسع عشر من ذى القعدة، سنة تسع وثلاثين وستمائة- كانت وفاة قاضى القضاة شرف الدين أبو المكارم: محمد بن عبد الله ابن الحسن بن على، بن عين الدولة: أبى القاسم صدقة بن حفص الصّفراوى الإسكندرانى.
وكان قد ولى القضاء فى أيام السلطان الملك العادل: سيف الدين- جدّ السلطان- كما تقدّم، واستمّر بعده.
ولما مات- رحمه الله صلّى عليه بمصلّى بنى أميّة، وشهد جنازته خلق كثير، ودفن بعد صلاة الظهر بالقرافة، وأمّ الناس عليه ولده محيى الدين: أبو الصلاح عبد الله. ومولده- رحمه الله تعالى- بثغر الإسكندرية فى يوم السبت، مستهلّ جمادى الآخرة، سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
وكانت مدة عمره ثمانيا وثمانين سنة، وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. ومدة ولاية القضاء- استقلالا- ستا وعشرين سنة، وتسعة أشهر، وسبعة عشر يوما. وناب عن القضاء قبل ذلك ثمانيا وعشرين سنة. وشهرين وأياما.
وكان رحمه الله تعالى- ذا رياسة قديمة، ووالده وجده من كبراء أهل الثّغر. وجدّ أبيه- القاضى الجليل- من رؤسائه. وبلغ من محلّه فى الدولة العبيديّة «1» أن لقّب بعين الدولة، ولقّب ولده بثقة الدولة، وولد ولده بعين الدولة. فسأل تخصيصا مانعا، لاشتباه الولد بالجدّ، فميّز الولد «2» بعين الدولة ومكينها، ووالده بثقة الدولة وأمينها- بتقليد من الخلفاء العبيديّين. وعمّر القاضى الجليل مائة سنة وأربع سنين. ومات عن عدة أولاد ذكور، ما منهم إلا من عدّل «3» بالديار المصرية، وتولى الأحكام الشرعية.
وكان القاضى شرف الدين- رحمه الله تعالى- مالكىّ المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعى
وسبب ذلك أنه قدم من ثغر الإسكندرية إلى مصر وسكن بها، فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. واتصل بالقاضى المرتضى ابن القسطلانى، ثم اتصل بقاضى القضاة: صدر الدين عبد الملك بن عيسى ابن درباس الهذبانى «1» ، فعدّله واستكتبه، فى ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. فلما عزل ابن الجاموس «2» من خطابة الجامع بالقاهرة، أمره القاضى صدر الدين أن يخطب، فخطب وأجاد وأبلغ فى الموعظة، ونزل فصلّى وجهر بالبسملة.
فلما فرغ من الصلاة، وجلس بين يدى القاضى صدر الدين، شكره وأثنى عليه- والمجلس غاصّ بالفقهاء والصّدور وأرباب المناصب- فقال بعض الأكابر: يا شرف الدين جهرت بالبسملة، وخالفت مذهبك. فأنشد قول المتنبّى فى كافور:
فراق، ومن فارقت غير مذمّم
…
وأمّ، ومن يممّت خير ميمّم
فاستحسن ذلك القاضى والجماعة. وصار شافعيّا من ذلك اليوم. واشتغل بمذهب الشافعى على القاضى: ضياء الدين أبى عمرو عثمان بن درباس «1» ، مصنّف الاستقصاء، وعلى الفقيه: أبى إسحاق إبراهيم بن منصور العراقى «2» واستنابه القاضى صدر الدين عنه فى الحكم بمصر، فى يوم الاثنين والخميس، فى العشر الأوسط من ذى القعدة، سنة أربع وثمانين وخمسمائة. فحضر إليه يستعفى من ذلك. وكان جمال الدولة: أبو طالب شراتكين- سلف القاضى صدر الدين- حاضرا، هو من الأجناد- فأسرّ إليه، وقال له: لا تستعفى، فأنت، والله، بعد اثنتين وثلاثين سنة، قاضى القضاة. فأرّخها فلم تزد ولم تنقص.
ووقّع للقاضى زين الدين على بن يوسف الدّمشقى «3» ، أيام ولايته.
ثم عاد القاضى صدر الدين إلى الحكم، فعاد إليه. وولّى القاضى محيى الدين: أبو حامد محمد بن القاضى شرف الدين بن أبى عصرون، فوقّع له.
ثم عاد صدر الدين، فعاد إليه، ولم يزل كاتبه إلى أن توفى. وكان كثير الرّكون إليه، والاعتماد عليه. حتى إن شرف الدين مرض، فسأل عنه القاضى صدر الدين، فأخبر بشدة مرضه، فقال: والله لئن قضى عليه بمحتوم، لأعزلنّ نفسى، لأننى لا أجد من أثق به سواه.
ولما ولّى القاضى عماد الدين: عبد الرحمن بن عبد العلىّ السّكّرى القضاء، كتب له، إلى أن عزل القاضى عماد الدين فى شهر المحرم، سنة ثلاث عشرة وستمائة، فقسّم السلطان الملك العادل القضاء شطرين: فولّى القاضى شرف الدين هذا القاهرة والوجه البحرى، فى الشهر المذكور- وقيل فى يوم السبت ثانى صفر- وولّى القاضى تاج الدين بن الخرّاط مصر والوجه القبلى، كما تقدم. ثم أضاف السلطان الملك الكامل إليه قضاء مصر والوجه القبلى، فى العشر الآخر من شعبان- أو فى شهر رمضان- سنة سبع عشرة وستمائة، كما تقدم ذكر ذلك وكان السلطان الملك الكامل كثير التّنويه بذكره، والافتخار بولايته، والابتهاج بما يراه من أحكامه، وما يبلغه من سيرته، وما يتحققه من حسن طويّته، وجميل سريرته. وكان إذا نظر إليه يقول: والله لنتعبنّ بعد هذا، إذا فقدناه، ولا نجد بعده من يقوم مقامه
وكان إذا كتب إلى السلطان، يستأذنه فى عزل نائب من نوابه بالأعمال، أو فى أمر يقصد فعله، يجيبه عن كتابه بخطّه على ظهر كتابه، أو بين سطوره. وكان يقترح ذلك على السلطان، فى بعض الأحيان. وكان الرّسم فى المكاتبات والأجوبة جاريا «1» على غير ما هو عليه، فى عصرنا هذا.
وقد رأينا أن نثبت من مكاتبات قاضى القضاة إلى السلطان، وأجوبته له، فى هذا الموضع، ما يعلم منه كيف كان الرّسم جاريا «2» . فمن ذلك ما كتب به إلى السلطان الملك الكامل:
«اللهم إنى أسألك حسن الفاتحة، والخاتمة فى عافية. المملوك يخدم المقام المولوىّ السّلطانى المالكىّ، الكاملى- بلّغه الله تعالى كلّ مراد وأمل، ووفّقه لطاعة ربه فى كل قول وعمل- وينهى: أن النائب فى الحكم بإطفيح «3» قد كثر من القول فيه ما تقتضى المصلحة الاستبدال به وهو ابن أخت الأجلّ مجد الدين، أخى الفقيه الأجل عيسى «4» - وقد كان المتظلمون، من مدة، حضروا شاكين لأمره، وطالع المملوك مولانا بحاله، وكان مولانا فى بعض متوجّهاته الميمونة. فورد الجواب، بأن مولانا ينظر فى ذلك. وقد كثر القول. والمملوك يستأذن على ما يفعله فى أمره، من صرف أو إبقاء.
المملوك يخدم، وينهى أن النائب فى الحكم بالمحلّة قد ظهر من أحواله، وتحايفه على من يحقد عليه، ويقصد مضادّته لما فى نفسه- ما يقتضى كفّ يده وهو يستند إلى متولّى الحرب بالمحلة، ويعوّل على ثنائه عليه وميله إليه- على ما ذكر للمملوك. وهو يستأذن على أمره.
المملوك يسأل الإجراء- على عادة الفضل والكرم- فى أنه، إن حسن التشريف عن هذين الفضلين بالجواب، أن يكون تشريف الخطّ الكريم- لا زال عاليا- ليكون سببا لستر القضية، إلى أن يعتمد فيها ما يرسم من توقّف أو إمضاء والله تعالى يمنّ على المملوك بدوام جميل آراء مولانا وعضده له، وتقوية يده فى نيابته عن مولانا فيما فوّضه إليه.
المملوك ينهى أن من اعتمد فى أمره من الشهود والنوّاب- الأمر الذى أرشد مولانا المملوك فيه إلى الصواب- لكلّ منهم جهة «1» ربما شقّ عليها ما جرى، وحصل منها فى حقّ المملوك ما يقضى بتغيير خاطر وتقسيم فكر.
والله ما يبالى المملوك- بعد رضى الله تعالى-[إلا] برضى مولانا بمن أحب أو أبغض، أو أعان أو تعصب.
ولو كان كلّ الناس عنى بجانب
…
لما ضرّنى، إذ كنت منك بجانب
المملوك ينهى أن مولانا، لما شرّف المملوك فى الخدمة، كان فى التقليد أنه لا يستنيب إلا من كان على مذهب الإمام الشافعى- قدّس الله روحه.
ولما كان بعد ذلك، ورد مكتوب من مولانا فى زمن إقامة ركابه بالمنصورة،
يتضمن أن أمر الإستنابة إلى المملوك. وفى النواب اليوم شخصان على مذهب مالك- رحمه الله تعالى. فيحيط العلوم أنه ما خالف إلا بعد ما ورد ما ذكره. وكان ممنّ تقدّم المملوك فى الحكم من استناب الشافعية والحنفية والمالكية بمصر نفسها، وبالأعمال. أنهى ذلك، والرأى أعلى فى التشريف بالجواب- إن شاء الله ربّ العالمين.
فأجابه على ظهر كتابه- بخطّه- ما مثاله: «اخترتك دون غيرك، لبراءة ذمّتنا وذمّتك. افعل ما يخلّصك عند الله، من خير معنا تفعله، ومع نفسك- إن شاء الله تعالى» وختمه. وكتب على الختم القاضى شرف الدين قاضى القضاة.
وأضاف السلطان إليه الحكم فى الينبع، فى بعض شهور سنة ست وعشرين وستمائة، فاستناب فيه. ثم أضاف إليه الحكم بغزّة والخليل والأردنّ وطبريّة وبانياس، فى سنة إحدى وثلاثين، فاستناب عنه فيها نوابّا.
ثم تقدم إليه أن يستنيب عنه خطيبا وحاكما بثغر دمياط، فى شعبان سنة أربع وثلاثين وستمائة، فاستناب فى ذلك.
وكتب إلى السلطان- قبل أن يستنيب- يستأذنه فى النيابة، ويستوضح عن أمر البلاد الشامية، فأجابه:
«ورد كتاب الحضرة- أعاد الله علينا من بركاتها، ونفعنا بمتقبّل دعواتها، وأسعد آراءها، ووفّق قصودها وأنحاءها، ولا زالت تصرفاتها فى الشريعة أبدا ميمونة، وأحكامها بإصابة الحق مقرونة- وفضضنا ختمها ووقفنا عليها، وأحاط علمنا بما اشتملت عليه، وما أومأت الحضرة إليه
وشكرنا اجتهادها المفوّف البرود، وتحرّزها فى الأمور الشرعية الجليلة العقود. وأتينا على ديانتها التى رقّتها عندنا إلى المقام المحمود.
فأما إشارتها إلى أنها تستنيب فى غزّة وما معها، عنا أو عن نفسها، فنحن أضفنا ذلك إليها، وهى تستنيب عن نفسها من يكون أهلا لذلك.
وأما استفهامها أن المواضع المذكورة: هل لها جامكيّات «1» مقرّرة أم لا؟
نعم لها جامكيّات مقررة، والديوان شاهد بها. وأما استيضاحها: هل لهذه المواضع أصل، حتى يقال: الموضع الفلانى وعمله، فيولّى فيه شخصا واحدا، أو كلّ موضع، وإن قلّ، مفتقر إلى نائب مفرد- فلتعلم الحضرة أن مرادنا أن نستنيب شخصين: أحدهما لغزّة وطبريّة والأردن وجبل الخليل، والآخر لبانياس وعملها.
ثم ذكر غير ذلك فى جوابه، وقال: وكتب لسبع خلون من شوال سنة إحدى وثلاثين وستمائة، بمنزلة تقابل البيرة بشاطىء الفرات، من برّ الشام المحروس- شفاها.
وكتب إلى السلطان أيضا يستأذنه فى صرف بعض النوّاب، فأجابه:
«وردت مكاتبة الحضرة- أيّدها الله بتوفيقه فى جميع حالاتها، ولا أخلى من صالح دعواتها فى شريف أوقاتها، وأجراها من السّداد والتّحرّز على مختار عاداتها- ووقفنا عليها جميعا، وأحاطت علومنا بما أشارت إليه، وما نبّهت فيها عليه.
فأما إشاراتها إلى صرف قاضى الفيّوم والاستبدال به بخطيب البلد وصرف قاضى قوص، وتعريضها بأنها لا يجوز لها إعادته. وعزمها على صرف قاضى إخميم، وما عرّضت به من انتمائه إلى كريم الدين الخلاطى.
وإصرارها على صرف قاضى منية زفتى، وتصريحها بأنه ذاكر أنّا نعرفه.
وقد خلعنا عليه- فجوابنا عن جميع ذلك: أنا قلّدناها هذا الأمر العظيم.
وذمّمناها هذا الخطب الجسيم، ونهجنا بها السّلوك فى طريقه المستقيم، وفوّضنا ذلك إليها، وجعلنا أزمّة نقضه وإبرامه بيديها، وصيّرنا ركائب آمال طالبى التّولية مناخة لديها- نرجو بذلك براءة الذّمّة عند الله تعالى، وأن لا تقوم الحجّة علينا ولا عليها.
فمن استصلحته ورضيته من النّواب، فلتقرّه على حاله. ومن ظهر لها اعوجاجه وسخطته، فلتصرفه، ولا تعرّج على أساطير أقواله. فالإرهابات والتّمويهات لا مدخل لها فى أمور الدين، والشّرع الشريف منزّه عن شفاعة الشافعين. فلتعلم الحضرة ذلك، ولتواصل بالمتجدّدات «1» ، موفّقة فى ذلك- إن شاء الله تعالى. سطّرت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، سنة إحدى وثلاثين وستمائة، بظاهر السّويدا- مشافهة.
هذا كان الرّسم فى المكاتبات والأجوبة. وفيه دليل على أن قاضى القضاة بالديار المصرية، فى ذلك الوقت، كان لا يستقلّ بعزل نائب من نوّابه بالأعمال- وإن صغرت جهة ولايته- إلا بعد مراجعة السلطان،
واستئذانه. وما زال الأمر جاريا على ذلك، إلى أن ملك السلطان الملك الصالح نجم الدين، فغلظ حجابه، وتعذّر خطابه وجوابه، وتعاظم أن يشاور فى الجزئيات، وأن يشافه إلا فى الأمور المعضلات. فاستقلّ حينئذ القضاة وغيرهم، واستبدّوا بالولايات والعزل.
ولنرجع إلى أحوال قاضى القضاة: شرف الدين، وسيرته.
وكان- رحمه الله تعالى- جوادا كريما، زاهدا لا يدّخر شيئا:
ولا يملك إلا سجّادة خضراء من الصوف، وسجّادة من أدم ومشطا وسبحه، ومقراضا، وعودا من أراك «1» . وليس له إلا بدلة واحدة، فإذا تغيّرت، غسلت له ليلا. وبغلة واحدة. فإذا كان زمن الربيع، استأجر بغلة فى كل يوم بثلاثة دراهم، ويقوم بعلفها من عنده، ما ملك عقارا، ولا وجبت عليه زكاة فى عمره.
وكان مضبوط المجلس، لا يسارّ أحدا فى مجلسه ولا يضحك فيه.
وكان كثير العبادة، يسرد الصّوم، ولا يفطر إلا الأيام التى لا يجوز صومها، كثير التلاوة للقرآن، والذّكر والأدعية. وكان. لا يكلّف أحدا قضاء حاجة، إلا ويعطيه فوق أجرته. حتى كان يدفع ملء إبريق ماء حارا فى الشتاء من الحمّام، عند كل صلاة، نصف درهم للحمّامى، وربع درهم لحامل ذلك إليه. وكان يدفع لبارى أقلامه أجرة، من درهمين إلى ثلاثة.
وكان له شعر حسن، قد وقفت منه على قصائد، يمدح بها السلطان الملك الكامل- تركنا إيرادها إختصارا. فمن شعره، بديهة:
وليت القضاء، وليت القضا
…
ء لم يك شيئا تولّيته
وقد قادنى للقضاء القضا
…
وما كنت قدما تمنّيته
وكان حسن النّثر. وكانت علامته: الحمد لله متولّى السرائر.
ويكتب تحت خط الشهود: أقام شهادته عندى بذلك، وشخص المذكور. والله على كل شىء شهيد. وأخباره- رحمه الله تعالى- وأوصافه الحسنة كثيرة، وقد أتينا منها بما فيه الكفاية.
ولما مات قاضى القضاة شرف الدين فى التاريخ المذكور، خرج الأمر السلطانى بالإذن للعقّاد والنواب عنه بالقاهرة- فى يوم الأحد الثانى والعشرين من ذى القعدة من السنة- بالإستمرار، إلى أن يقع الإختيار على قاض، ولم يؤذن لنائبه: القاضى محيى الدين عثمان بن يوسف القليوبى- بشىء- وهو الذى كان خليفة القاضى شرف الدين بن عين الدولة فى الحكم- إلى أن مات. واستمر ذلك إلى يوم الأربعاء، الخامس والعشرين من الشهر.
ففوّض السلطان قضاء القاهرة والوجه البحرى لقاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى- وصرف عن الحكم بمصر والوجه القبلى. وكان قد
استناب بمصر ابن عمه: القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم ابن خلّكان «1» ، وفوّض إليه عقود الأنكحة وقضاء الجيزة، واستناب شمس الدين عنه فى قضاء الجيزة أخاه: بهاء الدين محمد بن محمد. فلما ولى القاضى بدر الدين القاهرة، استناب القاضى شمس الدين- المذكور- بها فجلس فى يوم الخميس- السادس والعشرين من ذى القعدة- بجامع الأزهر، وأمر الشهود بالانتقال إلى حرم الجامع. ثم شرك بينه وبين القاضى محيى الدين، فى النيابة بالقاهرة. وولّى قضاء مصر الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام.
ذكر وصول شيخ الإسلام «2» عبد العزيز بن عبد السلام- إلى الديار المصرية، وما اتفق له بعد خروجه من الشام إلى أن وصل، وتفويض القضاء بمصر والخطابة بها- وغير ذلك- إليه، وما فعله وعزله نفسه
كان وصوله إلى الديار المصرية فى سنة تسع وثلاثين وستمائة وذلك أنه لما وقع له مع الملك الصالح إسماعيل بدمشق ما وقع، وعزله وألزمه داره- كما تقدم- فارق دمشق، وقصد البيت المقدس.
فوافاه الملك الناصر داود صاحب الكرك بالغور «1» ، فأكرمه ونقله إلى الكرك. وقال له: تقيم عندى بهذا الحصن وأنا لا أخرج عن أمرك. فأقام عنده مدة يسيرة. ثم استأذنه فى الخروج، فسأله عن موجب خروجه وكراهة مقامه. فقيل إنه قال له: هذا بلد صغير، وأنا أحبّ الانتقال إلى بلد أنشر به ما عندى من العلم.
فأذن له، وتوجه الشيخ إلى القدس، وأقام به. فجاء الملك الصالح إسماعيل بعساكره إلى القدس- وصحبته الفرنج- فأرسل إلى الشيخ بعض خواصّه بمنديله، وقال له: ادفع إليه منديلى وتلطّف به واستنزله، وعده بعوده إلى مناصبه. فإن أجاب، فائتنى به. وإن خاشنك فاعتقله فى خيمة إلى جانب خيمتى.
فأتاه الرسول ولاطفه، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك، وتعود إلى ما كنت عليه وزيادة، أن تقبّل يد السلطان. فقال له:«والله ما أرضاه أن يقبّل يدى، فضلا أن أقبّل يده» !! فقال: إنه قد رسم أن أعتقلك إذا لم توافق. فقال افعلوا ما بدالكم! فاعتقله فى خيمة إلى جانب خيمة السلطان.
وكان يقرأ القرآن والسلطان يسمعه. فقال يوما لملوك الفرنج: تسمعون هذا الذى يقرأ؟ قالوا نعم: قال هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره علىّ تسليمى لكم حصون المسلمين، وعزلته من الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته عن دمشق فجاء إلى القدس. وقد جددت اعتقاله
لأجلكم. فقالوا له: لو كان هذا قسّيسنا، لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!. ثم فارق الصالح القدس.
وقدم الشيخ إلى الديار المصرية. فأقبل عليه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأكرمه، وفوّض إليه الخطابة والإمامة بجامع عمرو بن العاص بمصر، فى يوم الجمعة العاشر من شهر ربيع الآخر، سنة تسع وثلاثين وستمائة، عوضا عن أبى المجد الإخميمى- وكان أبو المجد قد ولى الخطابة بعد وفاة أبى طاهر المحلّى، وكان ينوب عنه فى حال حياته. وخطب الشيخ عز الدين فى هذا اليوم. وأذّن الأذان الثانى على الدّكّة يومئذ، مؤذّن واحد- خلاف العادة.
ثم فوضّ إليه القضاء بمصر والوجه القبلى- فى يوم الثلاثاء التاسع من ذى الحجة، من السنة- بعد انتقال قاضى القضاة بدر الدين السّنجارى منها إلى القاهرة والوجه البحرى. وشغرت «1» مصر عن حاكم، فيما بين نقل القاضى بدر الدين وتولية الشيخ، أربعة عشر يوما ووليها الشيخ مضافة إلى الخطابة.
وجلس فى هذا اليوم، وحكم بين الناس. واستناب الشيخ عنه، فى الحكم، القاضى صدر الدين موهوب: قاضى جزيرة ابن عمر. وفى يوم جلوس الشيخ للحكم، أسقط عدلين من العدول المتقدّمة.
وسبب ذلك أنه وجد مسطورا «1» ، فيه شهادتهما، وهو غير مؤرّخ، وفى خطّ كلّ منهما: كتبه فلان فى تاريخه. وسأل أحدهما عن فرائض الصلاة، فلم يجبه جوابا مرضيا. ثم أسقط، بعد ذلك بأيام، القاضى فخر الدين بن قاضى القضاة عماد الدين بن السّكّرى- مدرّس منازل العزّ- لأنه وجد شرط الواقف بالمدرسة أن يكون المدرّس بها عارفا بالأصولين «2» ، وهو عار عن معرفتهما. فأسقطه لذلك.
وأسقط أيضا جماعة من عدول «3» القاضى شرف الدين بن عين الدولة. ثم أسقط ولده محيى الدين أبا الصلاح. وطلبه فخرج مستخفيا إلى ثغر الإسكندرية. واستند فى إسقاط كلّ منهم إلى موجب ظاهر. ثم عزل نفسه. فتلطف السلطان فى إعادته، فعاد.
ثم أسقط الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ: وزير السلطان الملك الصالح ونائبه، ومقدّم جيوشه. وعزل نفسه عن القضاء ثانيا.
وسبب ذلك: أن الصاحب معين الدين كان قد بنى فراشخاناه «4» على ظهر مسجد، بجوار داره. وكان السلطان قد فوّض إلى الشيخ أيضا
النظر فى عمارة المساجد، بمصر والقاهرة. فأرسل إليه يأمره بهدم ما استجدّه على ظهر المسجد وإزالته، وإعادة المسجد الى ما كان عليه. فلم يجب إلى ذلك. ثم عاوده فلم يفعل.
فلما طال ذلك على الشيخ، أمر الفقهاء طلبته أن يأتوه فى غد- ومع كل واحد منهم معول- ففعلوا ذلك. فلما رآهم العوامّ اجتمع منهم خلق كثير بالمساحى. وركب الشيخ إلى دار الصاحب معين الدين، وهو فى خدمة السلطان، وأمر بإخراج ما فى ذلك المكان، فأخرج، ثم أمر بهدمه فهدم.
فتألم الصاحب معين الدين لذلك، ولم يمكنه أن يحدث فيه شيئا.
فلما كان بعد مدة يسيرة، جلس الشيخ بجامع مصر لتعديل من شهد بعدالته، منهم: فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن محمد. واجتمع لذلك جمع كثير من العلماء والفقهاء والأكابر والقرّاء- وكانت العادة كذلك فى إنشاء العدالة. فاتصل الخبر بالصاحب معين الدين، فأمر والى مصر أن يدخل إلى المجلس، ويفرّق ذلك الجمع، ويقول للشيخ عز الدين: يقول لك الصاحب: بلد السلطان لا يجتمع فيه الجموع. ففعل الوالى ذلك.
فصرخ الشيخ فى المجلس بإسقاط عدالة الصاحب معين الدين! ثم عزل نفسه عقيب ذلك. وكثر اللّغط، وارتفعت الأصوات. ولما اتصل خبر هذا الإسقاط بالسلطان، منع الصاحب معين الدين من الدخول إليه ثلاثة أيام، حتى لفّق صيغة شهدت أن الشيخ إنما أسقطه بعد أن عزل نفسه، وأن إسقاطه لم يصادف محلّا، وأنه باق على عدالته.
وأثّر هذا الإسقاط فى الصاحب معين الدين أثرا مؤلما. وهو أنه حكى أن السلطان أرسل رسولا إلى الدّيوان العزيز «1» ببغداد، وكان المشافه للرسول عن السلطان الصاحب معين الدين. فلما أبلغ الرسالة قال له الوزير:
أيوب شافهك بهذه الرسالة؟ قال: لا، إنما شافهنى بها عنه الصاحب معين الدين. فقال له الوزير: معين الدين أسقط الشيخ عزّ الدين عدالته، فلا يرجع إلى مشافهته.
ولما عزل الشيخ نفسه، أراده السلطان على العود إلى القضاء، فامتنع من ذلك. ففوّض السلطان الملك الصالح القضاء بعده، بمصر والوجه القبلى، إلى نائبه: القاضى صدر الدين أبى منصور موهوب، بن عمر بن موهوب، بن إبراهيم، الجزرى «2» الشافعى- وذلك فى سنة أربعين وستمائة. فأعاد بعض من أسقطهم الشيخ عز الدين إلى العدالة. ولم تطل ولايته، فإنه استمر فى القضاء نحو سنة. وعزل، ولم يل القضاء بعدها.
وفى سنة تسع وثلاثين وستمائة- أيضا- توجه السلطان الملك المنصور- صاحب حمص- وعسكر حلب، إلى حرّان، والتقوا مع الخوارزميّة، ومزّقوهم كلّ ممزّق، فكسروا الخوارزمية.